الثقافية

المخرج السينمائي التونسي أنيس الأسود ضيف مع سمير

الجزء الأول

🎙️حاوره: سمير تلايلف


🎙️ المخرج السينمائي التونسي أنيس الأسود أهلا بك في هذه الإطلالة على جمهورك من خلال ثقافة نيوز الجزائرية، بداية كيف حال السينما في تونس الخضراء؟


• أنيس الأسود: مرحبًا أخي سمير، والله الأفلام جيدة جدًا، فالسينما التونسية في السنوات الأخيرة تمر بانتعاش ملحوظ وتطور كبير في جودة الأفلام، وهي موجودة في معظم المهرجانات في العالم بقاراته الخمس، لكن الأفلام السينمائية التجارية هي من تأخذ نصيب الأسد والوهج والصيت الكبير، مثل الأفلام الكوميدية والروائية وأفلام الأطفال وأفلام الرعب، التي تستقطب الجماهير الغفيرة، وهذا يعود لرجوع مهرجان قرطاج السينمائي وتطور المهرجانات الأخرى.
عندما تلاحظ هذا اللغط السينمائي تقول أن السينما التونسية لازالت بخير، لكن في الحقيقة أن السينما في تونس مريضة لغياب عملية توزيع الأفلام، وهذه هي المشكلة الرئيسية، فقاعات السينما الموجودة في تونس العاصمة أصبحت قليلة ووضعيتها سيئة، حتى قاعات «پاتي موتيفليكس» التي فتحت أبوابها والمقدرة بـ 32 قاعة مالوجودة في بعض المدن، والتي ستفتح أخرى مستقبلا وتلقى إقبال جماهيري، لكن الأفلام المعروضة في هذه القاعات هي الأفلام الأجنبية التجارية المبهرة، رغم أن الجمهور التونسي متعطش للأفلام التونسية.
أعود لأقول أن السينما التونسية مريضة لعدم وجود البوكس أوفيس كذلك، والذي يجعلنا نعرف إيرادات السينما، لأن غياب التذكرة الإلكترونية الموحدة يجعل أموال السينما مفقودة، ويجعلنا لا نعرف الأموال التي تدرها الأفلام في القاعات رغم الإقبال الجماهيري الكبير والأفلام الجيدة والتي ينتظرها الجمهور، وهذا ما لاحظناه في مهرجان قرطاج حيث امتلأت كل القاعات بالجماهير. لكن رغم كل ما قلته يبقى تطور السينما في تونس رهين الموزعين، أمام عجز مركز السينما والصورة في فرض التذكرة الموحدة عليهم وعلى مسيري قاعات السينما، وفرض الضرائب التي تنجر على هذه التذكرة التي باستطاعتها تمويل وتجهيز هذه القاعات وتجهيز وبناء قاعات جديدة، وهذا لا يحدث إلا بالبوكس أوفيس.
كذلك يجب تحديث القوانين التي يشتغل بها مركز السينما والصورة، وتحديث كل قوانين القطاع بصفة عامة، بالإضافة إلى رفع دعم الدولة للأفلام السينمائية، فالميزانية الممنوحة تعد بسيطة ولا تتجاوز 5 مليون دينار تونسي أي ما يقارب مليون و500 ألف أورو، وهذا مبلغ بسيط جدا لسينما تتطور بشكل كبير.
خلاصة القول أقول أن بوجود البوكس أوفيس ستتنظم كل الأمور وتصبح واضحة، ويسهل علينا معرفة من يسيطر على أموال السينما، فالمنتجون ينتجون والدولة تدعم (الدعم البسيط)، رغم كل هذا لم تتطور السينما، لأن هناك عقم في الإدارة وفي تطوير القوانين.


🎙️أعمالك السينمائية شاركت في عديد المهرجانات، وحصدت عديد الجوائز، فما مدى أهمية التتويجات والجوائز في حياة أي مخرج سينمائي؟


• أنيس الأسود: أظن أن الأفلام الجديدة التي قمت بإنجازها، كفيلم «حدود الله» الذي حصد أكثر من 30 جائزة عبر العالم، وفيلم «loading» وهو فيلم روائي قصير من بطولة محمد علي نهدي، معز تومي، صلاح مصدق، أيوب المسلاتي، وغيرهم، والذي تحصل على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان الأقصر في دورته 14.
التتويج يعطي قيمة للعمل وللفريق الذي قام بإنجازه، ويؤكد تميز هذا الفيلم.
أشير أن فيلم «حدود الله» هو شريط وثائقي طويل من إنتاج قناة الجزيرة الوثائقية التي أشكرها على الدعم والمشاركة في الإنتاج، وهذا مهم جدا، لأنها كانت نافذة لعرض أفلامنا وتوزيعها، كما تعلم أن الأفلام الوثائقية قليلة التوزيع في قاعات السينما، لتبقى قناة الجزيرة تحمل على عاتقها توزيع هذه الأعمال في الوطن العربي،



أمام العقم الموجود في القنوات التلفزيونية التونسية خاصة والدولية التي لا تدعم الوثائقيات، وليست لها صناديق لدعم وتشجيع الإنتاج الوثائقي الذي كان موجودا في الثمانينات والتسعينات، لكنه اختفى خصوصا بعد الثورة التونسية، حيث أصبح كل شيء عقيم وجامد، وتوجه القنوات التلفزية إلى إنتاج الدراما ودعم المسلسلات، حتى أنهم لايبثون الأفلام الوثائقية عبر قنواتهم، فتوزيع هذه الأعمال الوثائقية عبر تلفزيونات غائبة. لكن يجب أن أنوه أن هناك شيء جديد في تونس وهي المنصات، فلدينا منصة خاصة بالسينما التونسية وهي منصة «أرتي فاي» التي تأسست منذ 8 سنوات على ما أعتقد، هذه المنصة التي تساهم في توزيع الأفلام عبر المنصات العالمية، وهي من الإنجازات المهمة للسينما التونسية رغم غياب التذكرة الموحدة.

بالعودة لسؤالك، تتويجات الأفلام هي تحفيز للمخرج، وتجعله يؤمن بعمله وبقناعاته، وتؤكد رؤيته الإخراجية، ووصول الفيلم إلى الجمهور وإلى النقاد والمختصين. فالجوائز تشجع، والإختيارات والترشيحات في المهرجانات تشجع، وهذا يبقى مهم في حياة المخرج خاصة بعد الإنتهاء من الفيلم وطرحه للجمهور في العرض الأول والثاني والثالث و……
التتويجات مهمة وإلتفاتة جميلة جدا، وهي اعتراف على نجاح المخرج، ففيلم «حدود الله» وفيلم «loading» عند تحصلهم على جوائز وترشيحهم في المهرجانات كقرطاج يؤكد جودة هذه الأفلام، وإن شاء الله سنواصل على هذا المنوال.


🎙️ في نظرك، ماهو معيار نجاح المنتوج السينمائي، هل في حصده للجوائز، أم النجاح الجماهيري ونفاذ التذاكر في أكشاك قاعات السينما؟


• أنيس الأسود: والله عملية الإنتاج معقدة جدا، فأول خطوة هي الرؤية الشاملة للمشروع، فعندما تكون أنت المنتج تحاول اختيار المشاريع التي تتوافق مع رؤيتك وقناعتك، وعليك أن توفق بين المهرجانات التي ستدخلها، فالمهرجانات مهمة في حياة الفيلم وإنطلاقه في السوق الدولية والوطنية، لكن في نفس الوقت شباك التذاكر مهم أيضا، لأننا نعمل من أجل الجمهور، الذي نحاول أن نصل إليه من خلال أعمالنا التي يجب أن تحسِّن وترتقي بالذوق العام، فسينما المؤلف مهمة جدا ويجب أن تصل للمشاهد سواء في تونس أو خارجها.
أنت تعلم أن المهرجانات تضمن توزيع الأفلام في المنصات والتلفزيونات، وتشوق الجمهور لانتظارها في قاعات السينما، وهنا أقول أن الكل يكمل بعضه سواء في تحصل الأفلام على التتويجات، أو في التفاف واتفاق الجمهور حول مشاهدتها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى اليوم لم يعد هناك مشكل بين السينما التجارية وسينما المؤلف، فهما يكملان بعضهما البعض، لذا يجب سن قوانين للسينما التجارية التي تدخل الجمهور إلى القاعات وتقفل الشباب حتى تمول سينما المؤلف التي هي مهمة جدا كذلك، لأن المشاهد والمحب للسينما والمواطن بصفة عامة يشاهد الإثنين. وحتى لا تصبح الرداءة مسيطرة، لأننا نعلم أن السينما التجارية مثل قالب الحلوى تقدم للمشاهد ما يريده سواء كان في المواضيع الكوميدية أو الجنس أو العنف والحركة، خصوصا أنه يتابع تلك الأفلام بنجومه المفضلة، وهذا ما يجعل الإقبال كثير عليها، لذا على المسؤولين في القطاع السينمائي فرض ضريبة على كل الأفلام المعروضة في تونس سواء الأفلام التونسية أو الأجنبية، ففي فرنسا مثلا كل الأفلام المعروضة في قاعاتها يقتطع منها نسبة 13.5 بالمئة تعود لمركز السينما والصورة، وهذا لتدعيم وإنتاج أفلام جديدة ودعم التجهيزات من قاعات وأجهزة خاصة بالانتاج السينمائي، وكذا لتشجيع الإستثمارات في هذا القطاع، كما تجعل الدولة تساهم في خلق حلقة الإنتاج داخليا وخارجيا، وهذا كما قلت سابقا لا يتحقق إلا بفرض التذكرة الإلكترونية الموحدة التي تكون بمثابة مراقب، وتجعل توافق بين السينما التجارية وسينما المؤلف، وتجعلهم يعيشون مع بعض ويتغذون من بعض، ويرتقون ببعضهما البعض إن صح التعبير، وهذا هو الهدف.


🎙️ قلت في حوار سابق معنا، وفي هذا الحوار كذلك أن السينما في تونس تعاني بسبب غياب البوكس أوفيس، هل يمكن أن تضعنا في الصورة أكثر، وهل لازالت دار لقمان على حالها، أم تحسن الوضع السينمائي قليلا نوعا ما، وهل هناك نية لتغيير الوضع؟


• أنيس الأسود:  للأسف الأمور تدهورت ورجعت للخلف، وأصبحت أكثر سوءً، لأن الموزعون أصبحوا منتجين، وصاروا يستغلون القاعات السينمائية لأنفسهم ولأعمالهم السينمائية التجارية التي لسنا ضدها، لأنها تكمل سينما المؤلف، لكنها سينما بدون تذاكر، فلا نعرف إيرادات الأفلام التي يدخلها آلاف المتفرجين لمشاهدتها، خاصة الأفلام الأخيرة، لأن المنتجون يتقنون أعمالهم ويوزعونها ويسوقون لها باحترافية، لكننا نجهل إيراداتها كما ذكرت ، ونجهل ما يعطى من أموال لمركز السينما والصورة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى حقوق المؤلف التي لازالت مهضومة إلى اليوم في تونس، إذن دار لقمان تدهور حالها، ولا يوجد أي تحرك لا من الدولة ولا من المنظمات السينمائية الناشطة في تونس، رغم هذا توجد منظمة تتحرك وتعمل في حوارات وتلم شمل الدولة والقطاع الخاص، وتحاول تبديل القوانين وإيجاد حلول في التوزيع، لكن يحاولون إفشالها بشتى الطرق، هذا يعني أن هناك محاولات من الشباب في تنظيم القطاع وخلق ديناميكية اقتصاد سينمائي، لكن كل إيرادات السينما مخفية ولا نعرف أي معلومة عنها.


بالإضافة إلى غياب البوكس أوفيس، نجد حلقة أخرى مفقودة في تونس، وهي الإحصائيات، فلا نجد أي معلومة إحصائية حول عدد الأفلام المنتجة بشتى أنواعها، وهذا كله بسبب عقم الإدارة وعجزها على تسيير القطاع.

هناك نقطة أخرى وجب الإشارة إليها، وهي عدم وجود قانون يبين فيه احترام السن العمري لدخول السينما، فنجد أطفال في سن التاسعة والعاشرة يدخلون قاعات السينما، ويشاهدون أفلام خاصة للشباب فوق 18 سنة، فتجدهم يشاهدون أفلام العنف وأفلام تحتوي على مشاهد الجنس والكلام الفاحش. وهذا كله يجعل هناك اضطراب في حال السينما، فلا وجود بوكس أوفيس، ولا وجود لإحصائيات، حتى مركز السينما والصورة أصبح متوقف واقتصرت مهامه على تنظيم المهرجانات، تصور مركز سينمائي بإمكانياته الضخمة ينظم المهرجانات فقط ولا يقوم بأي مشروع لسن قانون أو تبديله، أو ضغط من أجل خلق التذكرة الموحدة، وفرض بوكس أوفيس بحزم وصرامة شديدة لتنظيم القطاع. ويمكنك أن تتصور بخلق البوكس أوفيس كيف سيتنظم أهل السينما، وكيف تكون الشفافية وتتوضح الأمور، فغياب البوكس أوفيس خلق الكراهية والحسد، وجعل السينمائيون التونسيون يخرجون من تونس، فالمنتجون أصبحوا عاجزين على خلق ثروة من فيلم لآخر، وهذا ما يجعلهم يبحثون دوما على الدعم رغم أن أفلامهم تدر أموالا طائلة وتدخلها جماهير غفيرة.


🎙️ بعد فيلمك السينمائي «ڨدحة»، عدت بعدها بعملين سينمائيين هما: «loading» و«حدود الله»، حدثنا عنهما أكثر؟


• أنيس الأسود: فعلا بعد فيلم «ڤدحة» قمت بعملين تقريبا نزلت في نفس الوقت، هما:
فيلم «loading»، وهو فيلم قصير مدعم من وزارة الثقافة التونسية، يطرح موضوع الرشوة والفساد بين المواطن والدولة، وهو فيلم لاقى رواجا واسعا في تونس، لأن ظاهرة الفساد أصبحت متفشية، وأصبح المواطن التونسي يقرف منها، فالناس في تونس أصبحت لا تؤمن بخلاص الدولة من الفساد والرشاوي وغيرها من الآفات. جاء هذا الفيلم ليروي بطريقة سلسة وبسيطة عن فساد الإدارة في تونس التي تشكلت بداخلها لوبيات تستغل أملاك الدولة لصالحها، وهذا من أكثر الفساد الموجود في تونس اليوم، بالإضافة إلى فساد المواطن الذي يجر بدوره الإدارة إلى هذا الفساد، فأصبحوا يدورون في نفس الحلقة باحثين عن مصالحهم الشخصية ويلهثون وراءها بشتى الطرق.
الفيلم لاقى نجاح كبير، وتقمص بطولته كل من النجم محمد علي نهدي، معز التومي، صلاح مصدق، أيوب المسلاتي، أميمة معلاوي، وغيرهم من الممثلين الذين حملوا هذا الفيلم القصير لمدة 23 دقيقة، الفيلم الذي جال عديد المهرجانات داخل الوطن وخارجه، وسيعرض في جميع جهات الجمهورية التونسية، وهو يصول منذ مدة من منطقة إلى أخرى، وينال إعجاب الجماهير بجرأته وطرحه موضوع الفساد بدون التسلط على هذا أو ذاك، كما أتمنى أن يصل الفيلم إلى الجمهور الجزائري، ويشاهده عبر القاعات السينمائية الجزائرية.
الفيلم الآخر هو فيلم «حدود الله» وهو تجربة بدأت سنة 2013 وأتممناها سنة 2024، وهو فيلم وثائقي يروي معاناة الأطفال الذين ولدوا خارج إطار الزواج، بطل الفيلم هو معز الشريطي الذي يروي لنا حكايته الواقعية، الفيلم هو تجربة حياة هذا الطفل في غياب الأم والأب، وحكم المجتمع الذي يعتبره طفل غير شرعي رغم شرعيته الدينية والأخلاقية والإنسانية. معز عينة من هؤلاء الأطفال الذين يبحثون عن صورة الأم ويحاولون تعويض غيابها بأمور أخرى. في هذا الفيلم يعيش معز تجربة فريدة من نوعها والذي يحكيها لنا بعفوية الأطفال، ويأخذنا معه في طريق البحث عن الأم في داخله وفي الفن والغناء، وفي الحقيقة والواقع كذلك.


🎙️ هل هناك حرية مطلقة في طرح المواضيع في الأفلام السينمائية التونسية، أم أن هناك مواضيع تمنعها الرقابة التونسية وتكبل المبدع أو المخرج لطرحها في أفلامه؟


• أنيس الأسود: حسب رأيي، هناك حرية مطلقة في السينما التونسية، فلا وجود لحدود في طرح المواضيع مهما كانت جرأتها، سواء كانت قضايا فساد أو قضايا أخلاقية، أو قضايا سياسية، أو غيرها من القضايا، كما تعلم أن تونس حاليا تعيش مخاض عسير في جميع المجالات، والفساد تفشى في جميع القطاعات، الفساد الذي أصبح ظاهرة عالمية وليس فقط في تونس، لكن كل هذه المواضيع تطرح بشكل عادي في السينما التونسية، تبقى طريقة الطرح التي يجب أن تكون جدية وصادقة وتراعي أخلاقيات المجتمع، وهذا ما يجعل أي موضوع يصل للجمهور ويتقبله، وعلى سبيل المثال في فيلمي«loading» تحدثت عن علاقة المواطن بالشرطي الفاسد، التي بدأت برشوة لتتفاقم الأمور وتأخذ مسار آخر، أكيد أن الرشوة موجودة في كل المجتمعات، لكنها تفشت كثيرا في تونس، لذا سلطت الضوء عليها من خلال فيلمي الذي دعمته وزارة الثقافة عندنا، ولحد الآن الفيلم يعرض في جميع مدن الجمهورية ولم نتلقَ أي تضييق. هذا يحفزنا لطرح مواضيع أخرى أخطر في مشاريعنا القادمة بحول الله، مثل قضية الأفارقة المتواجدون في تونس، وقضية المتاجرة بالأشخاص، والعديد من المواضيع الأخرى، أظن أن الأهم كما قلت طريقة الطرح وكيفية تقديمه الجمهور دون المساس بحرية الأشخاص.
حتى في الأشرطة الوثائقية كما تعلم أخي سمير، هي أفلام ترصد الحياة الواقعية للأشخاص، هنا يتم إبرام اتفاق مع الأشخاص الذين نسرد قصصهم، ففي فيلمي الوثائقي «حدود الله» تعاقدت مع الشخصية الرئيسية وهي الطفل معز الشريطي، واتفقنا على صناعة الفيلم مع بعضنا البعض، حتى عند عرض الفيلم رافقني معز، وفتحنا الحوار والنقاش وهو متواجد معنا، رغم حساسية الموضوع، وهنا نحن نتحدث عن طفل ولد خارج إطار الزواج، رغم أن الولد لا ذنب له لكنه يواجه حكم قاسي من المجتمع، فأراد أن يواجهه ويواجه نفسه أيضا من أجل التخلص من العقد النفسية التي يحملها مرغما عنه.
أكيد هناك في تونس مواضيع تقلق، لكن جدية الطرح تجعل الناس تفتح باب الحوار والنقاش في أي موضوع كان. أقول أن لا وجود للرقابة التي اختفت بعد الثورة وعوضناها بتحديد السن العمري لكل فيلم، وهذا أهم من الرقابة، لأن السينما دورها كبير في تنوير الرأي العام وكشف المستور وتغيير الوضع للأحسن، كما تخلص أفراد المجتمع من العقد، أظن أننا في تونس نتنعم بنوع من الحرية المطلقة في طرح جميع المواضيع بكل جرأة وأكثر عمق. حتى في السابق أخي سمير، لما كانت هناك رقابة في تونس، كان المخرجون التونسيون أمثال نوري بوزيد، وفاضل جعايبي، وغيرهم، يراوغون الرقابة ويمررون رسائلهم من خلال أفلامهم للجمهور، بعد الثورة الأمور تطورت والسينما كذلك، وصرنا نتمتع بحرية كبيرة التي تجاوزت كل الحريات في العالم، ويمكنك رؤيتها جليا في الأفلام التي تنجز حاليا في تونس والمواضيع التي تتطرق إليها هذه الأفلام.


🎙️في الجزائر، السينما لازالت تعاني قلة التمويل من طرف الخواص، ولازالت الدولة تنتج على عاتفها أعمال سينمائية بين الفينة والأخرى، وهذا فتح المجال لسينما فرونكوجزائرية لا تمت بثقافة الوطن بصلة، فالمنتج الأجنبي يفرض مواضيع معينة، لو تضعنا في الصورة، هل سينما تونس تعاني أيضا من الممول الأجنبي الذي يفرض شروطه؟


• أنيس الأسود: شاهدنا في الجزائر خلال الأشهر القليلة الأخيرة عدة لقاءات جمعت أهل السينما مع أعلى سلطة في الدولة ممثلة في رئيس الجمهورية، اللقاءات التي تمحورت على إيجاد الحلول الناجعة لتطوير القطاع السينمائي، والأخذ بزمام الأمور وخلق ديناميكية سينمائية جادة وتفعيلها، أي أن هناك عناية من السلطات بالسينما وهذا شيء إيجابي، لكن حسب رأيي لازالت العجلة لم تدر بعد إن صح التعبير، رغم وجود أفلام ضخمة تنتجها الدولة على عاتقها لكن السينما الناجحة والتي تجوب العالم هي السينما الفرونكوجزائرية التي تعتمد على التمويل الفرنسي والأوربي، وتعتمد على مخرجين ومنتجين مزدوجي الجنسية، الذين يحاولون إنتاج أعمالهم بطريقة أو بأخرى، وهذا ما يجعلهم أكثر حظا من غيرهم للتمويل الأجنبي الذي يدعمهم بشدة ويحاول إيصالهم للعالمية.
نفس الشيء يحدث في تونس، أمام عقم السينما والحركة الإقتصادية السينمائية الغير موجودة لا في الجزائر ولا في تونس، رغم جودة الأفلام، لتبقى السينما كما قلت سابقا رهينة التذكرة الإلكترونية الغير موجودة، أتمنى أن تكون هذه التذكرة مستقبلا في تونس وفي الجزائر، ويصبح التسويق الجزائري والتونسي نفسه، فنجد الأفلام الجزائرية موزعة في تونس، والأفلام التونسية موزعة في الجزائر في نفس التوقيت، وهذه هي الأشياء التي تنقصنا ويجب على مركز السينما والصورة في تونس والمركز السينمائي الجزائري للإنتاج الإشتغال عليها.
بالعودة إلى سؤالك، أظن أن التمويل الخارجي دائما يفرض المواضيع التي تهمه، وحسب خبرتي في الميدان التي تتجاوز الـ 30 سنة، فالمواضيع التي يقترحها الأجنبي هي : الإرهاب، وضعية المرأة في مجتمعاتنا، الشذوذ بأنواعه، قضية السود وهجرة الأفارقة، الأوضاع السياسية والإقتصادية التي يصورها على أنها هشة، كل هذه المواضيع تهم صناديق التمويل وتشجعها، وتدخلها للمهرجانات بشتى الطرق. فأي مخرج يشتغل على هذه المواضيع سيلقى الدعم والتوزيع والترويج، لأن الغرب يريد تعرية مجتمعاتنا وإعطاء صورة سوداء عنا، صحيح أن تلك الأوضاع موجودة في مجتمعاتنا لكن المنتج الأجنبي يعطيها صورة أكثر سوادا عما هي عليه، خاصة أنه يسعى لتقديمها في كل المهرجانات ويصوّرها بأحدث التقنيات التي تجذب المشاهد، ويوفر لها الظروف لانتشارها من تسويق ودعاية كبيرة وتوزيع جيد، بل يفرضها فرض على المهرجانات العالمية في فرنسا وإيطاليا وألمانيا وغيرها من الدول، حتى الدول العربية دخلت ميدان الإنتاج المشترك مثل السعودية وقطر، وتحاول فرض رؤيتها وفق أجندات معينة، وهذا شيء طبيعي، فحتى صناديق الدعم الداخلية في تونس تفرض رؤيتها وتوجهاتها، أظن أن لكل صندوق أجندة خاصة به، لكن يبقى ذكاء المخرج هو الفيصل في كل هذا، الذي عليه إيصال مشاكل مجتمعه وتعريتها دون المساس بكرامة الوطن. لذا وجب علينا كسينمائيين فرض رؤيتنا بكل جرأة وبكل طلاقة، وهذه هي السينما الحقيقية، ويجب أن نتعامل مع هذه الصناديق التي تحاول فرض أجندتها بالحيلة والمراوغة لإيصال أفكارنا للعالمية دون المساس بشرف وكرامة أوطاننا.


🎙️ المتابع لأعمالك يجدك تهتم كثيرا بالطفل، سواء في أفلامك أو في المهرجانات السينمائية الخاصة بالطفولة، فهل هذه طريقة ممنهجة للمخرج أنيس الأسود من أجل تقديم سينما مختلفة خاصة بالأطفال، أم أن هناك أسباب أخرى جعلتك تهتم بسينما الأطفال إن صح التعبير؟


• أنيس الأسود: معظم أفلامي التي قاربت 14 فيلم أبطالها أطفال من مختلف الأعمار، وهذا ليس توجه أو إغتنام فرصة غياب سينما الأطفال، فاهتمامي بالسينما الموجهة للأطفال تطورت من فيلم لآخر، معناه أن كل فيلم من أفلامي يجعلني أتعمق في هذه السردية لأنني أتطلع أكثر على عالم الأطفال، خصوصا عند مقابلتي لهم والإستماع إليهم، فكل طفل يحكي حكاية مختلفة عن الآخر، فعند إنجازي لفيلم عن الأطفال أتكلم مع العديد منهم من مختلف دول العالم، فيصبح جمهوري معظمه أطفال، وبالتالي أكوّن جمهور لديه تطلعات أو فهم أو قراءة لرؤيتي وسرديتي لموضوع معين يهمهم بالدرجة الأولى، وبالتالي تخرج أفكار جديدة للعلن، وأقرأ كثيرا من الأشياء عنهم، وعن بسيكولوجية وسوسيولوجية الأطفال وتربيتهم من خلال الصورة، وقراءة التجسيم عند الأطفال، فالأطفال يقرؤون الصور بطريقتهم وبمفاهيمهم، وهذه هي الفجوة الموجودة بين عالم الكبار وعالم الصغار، هذا ما جعلني أتعمق أكثر في عالم الأطفال والإستماع إليهم، فنحن لا نستمتع للأطفال في مجتمعاتنا العربية، هم مفعول بهم حتى من أقرب الناس عندهم كالوالدين والإخوة. تصور معي إذا كان لهؤلاء الأطفال إعاقة أو مشاكل خصوصية أو إجتماعية، ولا يجدون من يسمعهم. مثل الطفل معز الشريطي الذي عرضت حكايته من خلال فيلمي «حدود الله»، الذي خرج للدنيا ولم يجد أباه وأمه، وحكم عليه المجتمع بأنه غير شرعي، ويلومه في أمر هو غير مسؤول عنه، ويبدأ حياته مع بعض الإعاقات الجسدية التي حملها معه من ولادته المتعسفة والتي حدثت في ظروف صعبة جدا، لك أن تتصور كل هذه المعاناة وكيف عاشها هذا الطفل الصغير، هذه الأشياء جعلتني أتشبث بهذا العالم وأتقرب من الأطفال والإستماع لهم، وأحاول إيصال أصواتهم من خلال أفلامي، فأفلامي عن الطفولة هي محاولة إيصال أصوات لم تصل، ولن تصل إلا بالصورة والصوت.
احتكاكي بهذا العالم البريء جعلني أكتشف أيضا سياسات ومجتمعات الدول العربية التي لا تهتم بالطفولة، أول شيء هو عدم وجود قنوات تلفزيونية حكومية للأطفال. مثلا دولة مثل الجزائر بقوتها الإقتصادية وشساعة جغرافيتها ونموها الديموغرافي لا توجد بها قناة للأطفال، في تونس في عهد الرئيس بورڨيبة كانت هناك برامج تبث للأطفال كل سبت وأحد تحت مسمى “تلفزة للأطفال”، والتي كانت ممكن أن تتحول إلى قناة وطنية، فتربية الأطفال مسؤولية الدولة وليس الخواص. فلما نشاهد القنوات الخاصة التي تهتم بالأطفال نجد أنها تحمل إيديولوجية معينة أو تبث برامج غربية مدبلجة، وهنا نقع مرة أخرى في الفخ، ونغذي فكر أطفالنا بأشياء لا تهمه، وندخله في ثقافة غربية جديدة حتى يتشبع منها، وحين نطلب منه مثلا رسم منزل في تونس أو في الجزائر يرسم لنا منزل سويسري، لأنه تأثر بما تبثه تلك القنوات من صور متحركة في الأعمال الغربية المدبلجة.



في الدول الأوربية نجد كتابات عديدة للطفل، بينما في ثقافتنا العربية لا نوجد كتابات للأطفال، أعتقد أن آخر الكتابات العربية التي كتبت للطفل هي « السندباد البحري» ويمكن أن تكون هذه القصة فارسية أصلا، أما في تونس أعتقد أن حكاية عبد العزيز العروي هي آخر الكتابات للطفل التونسي، وهذا يؤكد قلة الأعمال الأدبية العربية الموجهة للطفل، وبالتالي أصبحنا متأخرين في إنتاج الأفلام والصورة الخاصة بالأطفال، وأصبحنا عاجزين عن فهم أطفالنا، لأن الثقافة الغربية غزت فكرهم، فأصبحوا يتابعون أفلام العنف والجنس ويحملون ثقافات أخرى. الصورة هي سلاح المستقبل، فإذا لم نعلم أطفالنا سيميولوجية الصورة، فكيف سنواجه العالم؟، أهمية الصورة تظهر جليا في الحرب على فلسـ..طين، التي هي حرب صورة، فلا نرى قتيل واحد من إسرائيل بينما نشاهد آلاف القتلى الفلسطيـ..نيين يوميا، وهي إستراتيجية مدروسة تجعلك تشعر بالهزيمة. فالصورة هي أداة للمقاومة كذلك، وهي لغة للتخاطب وسلاح حقيقي لحماية الأوطان من التفتت، ودعني أقول أن نشر الصورة تشبه نشر الإسلام، لذلك أنا أدخل في المنظمات، وأجوب كل العالم وأحث على خلق مواعيد للأطفال لأنني أؤمن أن الطفل حين يشاهد فيلم أو فيلمين أو عدة أفلام عربية كانت أو إفريقية، أو أمازيغية، أو يابانية، أو أوروبية أو أي جنسية أخرى باستطاعته تغيير نظرته للحياة، وتعطيه منفذ للخروج من واقعه البائس، لأن مستقبلنا في الصورة.

كنت قد زرت عدة دول أوربية وأمريكية وآسيوية، ووجدت أطفال في سن 14 و15 سنة يدرسون تخصص السمعي البصري في مدارس ثانوية، ويعرفون النظرية الإيطالية الجديدة، ويعرفون السينما العالمية، ويتعلمون كيف يقرؤون الصورة وكيفية تحليلها وصناعتها، وهذا غير متوفر لأطفالنا.
لما نلاحظ التجربة التونسية في نوادي السينما التي كانت في الستينيات التي كانت 364 نادي مجهزين بالمعدات والكاميرات، تلك النوادي هي من أسست للسينما التونسية الحالية، حتى في الجزائر كانت هناك حركية سينمائية مميزة سابقا.
بالعودة لسؤالك، فالعمل للأطفال مهم جدا حتى نخرجهم من عزلتهم، وهذه هي كلمة السر التي جعلتني اشتغل على الطفولة، لأنني أعتقد إعتقاد جازم أن مشاهدة الطفل لمشكلته في فيلم بلهجته وفي مجتمعه، أو حتى في أفلام عالمية أخرى، مثل فقدان الأب أو الأم، أو التسرب المدرسي أو الإنتحار، يخرج من عزلته، لأن السينما لها القدرة لإخراج الأطفال من عزلتهم وإرجاعهم إلى المجتمع، وهو ما جعلني أشتغل للأطفال بكل قناعة.

كمال فليج

إعلامي جزائري / نائب رئيس مجلس ادارة صحيفة الآن الإلكترونية مستشار إداري / نائب رئيس التحرير / نائب رئيس الجمعية الجزائرية للأدب الشعبي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى