مع الأعيسر: نحن نمشي على جنازة المطر؟.
" وجه الحقيقه "
![](/wp-content/uploads/2025/02/d44fb576-d7be-46c2-8780-50e449cbcbe0-780x470.jpeg)
✍️ إبراهيم شقلاوي :
في صيف العام 2012، ابتدر وزير تنمية الموارد البشرية آنذاك، كمال عبد اللطيف، زيارات إلى كُتاب الدراما والمسرحيين السودانيين في منازلهم، حيث كانت البداية إلى منزل المسرحي الكبير مكي سنادة، برفقة وفد من مجلس المهن الموسيقية والدرامية الذي كان يرأسه علي مهدي. لم تكن تلك الزيارة مجرد لفتة تكريمية، بل جاءت ضمن محاولة جادة لإعادة دمج رموز المسرح السوداني في المشهد الثقافي، في وقت كانت فيه الحركة المسرحية تعاني من شح الموارد وهجرة نجومها. ورغم ما واجهه المسرح السوداني من تضييق خلال فترات مختلفة، فإنه ظل صامدًا، يبحث عن فضاءات جديدة للبقاء والتأثير.
اليوم، بعد أكثر من عقد، يتكرر المشهد بزيارة وزير الثقافة والإعلام والناطق الرسمي باسم الحكومة، خالد الأعيسر، إلى المسرح القومي بأم درمان، حيث التقى مجموعة من المسرحيين والكتاب، بعضهم عاد من المنافي، والبعض الآخر ظل متمسكًا بالخشبة في الولايات الآمنة، رغم القسوة التي فرضتها الحرب. لكن الفارق الجوهري بين الزيارتين يكمن في طبيعة السياق؛ فبينما كانت زيارة 2012 محاولة لإنعاش المسرح في ظل بيئة ثقافية راكدة، تأتي زيارة 2025 وسط مشهد أكثر تعقيدًا، حيث دُمرت البنية التحتية الثقافية، وأصبحت إعادة بناء المسرح جزءًا من معركة كبرى لاستعادة السودان من بين ركام الحرب.
هذه المفارقة تعيد إلى الأذهان مرحلة أخرى من تاريخ المسرح السوداني، حين واجه قمعًا شديدًا خلال فترة حكم الرئيس جعفر نميري (1969-1985)، إذ خضع المسرح لرقابة صارمة، وتعرضت بعض العروض للمنع، رغم حصولها على موافقات لجان النصوص الرسمية. ومن النماذج الكثيرة التي تحضرني مسرحية مميزة لعمر الطيب الدوش، “نحن نمشي على جنازة المطر”، تلك المسرحية التي ناقشت العلاقة بين المثقف والسلطة والتحولات الاجتماعية. لم ينطفئ المسرح، بل ازدهر في الخفاء، واستمر المسرحيون في تقديم عروضهم بطرق مبتكرة، متحدّين كل محاولات التقييد. واليوم، إذ نشهد محاولة جديدة يقودها الوزير لإحياء المسرح، يبرز السؤال الكبير: هل يمكن أن يبعث المسرح السوداني من رماده، ليس فقط كمؤسسة ثقافية، بل كمنبر وطني فاعل في إعادة تشكيل الوعي الجماعي؟
لطالما كان المسرح في السودان أكثر من مجرد منصة للأداء الفني؛ بل كان فضاءً للحوار، ومنبرًا لمساءلة الواقع، ومختبرًا للتحولات الاجتماعية والسياسية. وعبر عقود، عكس المسرح نبض الشارع، وشكَّل صوتًا مقاومًا في مواجهة الاستبداد، سواء من خلال النصوص المسرحية أو العروض التي لجأت إلى الأطراف لتتحرر من قيود السلطة. واليوم، في ظل ما خلّفته الحرب من دمار طال الحجر والبشر، يعود الحديث عن دور المسرح، ولكن هذه المرة ليس كمجرد فن، بل كأداة ضرورية في معركة إعادة البناء.
في هذا السياق، أثبتت تجارب دولية عديدة أن الفنون، وعلى رأسها المسرح، ليست مجرد وسائل للترفيه، بل أدوات فاعلة في تحقيق المصالحة الوطنية، وترميم النسيج الاجتماعي، وإعادة تأهيل المجتمعات. فمن ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، إلى رواندا بعد الإبادة الجماعية، ومن البوسنة والهرسك إلى جنوب إفريقيا، كان المسرح حاضرًا في لحظات إعادة التشكل، ليس فقط كنشاط ثقافي، بل كوسيلة لطرح الأسئلة الصعبة، وإعادة صياغة الذاكرة الجمعية.
في رواندا، على سبيل المثال، استخدمت العروض المسرحية كجزء من عملية العدالة الانتقالية، حيث قدمت شهادات الناجين، وأعادت رواية قصص الضحايا، وساعدت في خلق مساحات للتفاهم بين الأطراف المختلفة. وفي البوسنة، لعب المسرح دورًا مهمًا في التخفيف من حدة الاستقطاب العرقي عبر عروض مسرحية ركزت على المعاناة المشتركة بدلًا من الخطاب السياسي المتنازع. هذه التجارب تفتح الباب أمام تساؤل جوهري: هل يمكن للمسرح السوداني أن يلعب دورًا مشابهًا في ترميم الانقسامات التي عمّقتها الحرب؟
إحدى أكبر التحديات التي تواجه الدول الخارجة من الحروب هي إعادة تشكيل هوية وطنية لا تقوم على الإقصاء، بل تعكس التنوع وتؤسس لمستقبل مشترك. وهنا، يمكن للمسرح في السودان أن يكون أداة فاعلة لإعادة صياغة هذه الهوية، بما يملكه الفاعلون من وعي يعزز ثقافة السلام، ويدعم الوحدة الوطنية والتعايش السلمي بين السودانيين قاطبة، من خلال أعمال تناقش ليس فقط آثار الحرب، بل أيضًا مفاهيم الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والمواطنة.
الحروب لا تترك آثارها فقط على الاقتصاد والسياسة، بل تمتد إلى الأفراد، فتنتج جيلًا مثقلًا بالصدمات، والإحساس بالخسارة، وربما الخذلان، وانعدام اليقين بالمستقبل. وهنا، يمكن للمسرح أن يكون أداة علاجية واجتماعية، تساعد الأفراد على التعبير عن معاناتهم، والتعامل مع صدماتهم، وتحويل الألم إلى طاقة إبداعية تنهض بالمجتمعات.
كذلك، لا يمكن فصل المسرح عن الإعلام في مرحلة ما بعد الحرب، وهذا ما يدركه الوزير خالد الأعيسر من خلال سلسلة الزيارات التي ابتدرها للتلفزيون، والإذاعة، ووكالة السودان للأنباء، والمسرح القومي. وأتوقع أن تكون الزيارة القادمة لإحدى الصحف أو مؤسسات النشر، فقد تناقلت الأخبار ما حلّ “بالدار السودانية للكتب” من دمار. فكل هذه المنظومة ظلت تلعب دورًا مهمًا في صياغة الوعي العام للسودانيين.
الإعلام السوداني، رغم ما واجهه من تحديات، قادر على المساهمة في المرحلة القادمة بصورة فاعلة إذا وجد الدعم من الدولة والمجتمع. ومن هنا، فإن التكامل بين المسرح والإعلام يمكن أن يكون حجر الأساس في بناء سودان جديد قائم على المعرفة والتنوير. لذلك، لا بد من إعادة تأهيل البنية التحتية للمسارح، بدءًا بالمسرح القومي في أم درمان، ليكون مركزًا رئيسيًا للنهضة المسرحية، بجانب إطلاق مهرجانات مسرحية وطنية تجمع الفرق من مختلف الولايات، لتعزيز التفاعل الثقافي بين الأقاليم السودانية، وكذلك تعزيز التعاون بين المسرح والإعلام، لضمان وصول الرسائل المسرحية إلى الجمهور.
عليه، وبحسب ما نراه من “وجه الحقيقة”، فإن السودان اليوم أمام فرصة تاريخية لإعادة بناء ذاته بعد عامين من الحرب. وكما أثبتت تجارب دول عديدة، فإن النهضة بعد الحرب ليست مجرد إعادة إعمار للبنى التحتية، بل هي إعادة بناء للإنسان نفسه. المسرح، باعتباره أداة للوعي والتعبير، يمكن أن يكون أحد أهم الوسائل لإعادة ترميم الهوية الوطنية، وتعزيز المصالحة، والتأسيس لثقافة جديدة قائمة على التعددية والسلام.
دمتم بخير وعافية.
الإثنين 10 فبراير 2025 م.
[email protected]