قصائد و مقالات

سقوط النهود : تفاصيل لم تُحكَ!

وجه الحقيقة

✍️إبراهيم شقلاوي

سقوط مدينة النهود، رغم ما يحمله من وقع مؤلم، يجب ألّا يُقرأ بمعزل عن السياق العام لحرب الكرامة، حيث لا ينفصل الحدث الجزئي عن مجمل الصراع الوجودي الذي تخوضه الدولة السودانية ضد مشروع تفكيكها. فالنهود تمثل منعطفا في شبكة المواجهة الكبرى، وكل تحوّل في السيطرة عليها أو استعادتها يخضع لتقديرات أشمل. في هذا المقال نحاول استكشاف ذلك بالنظر إلى استراتيجيات الجيش وتكتيكاته في إدارة المعركة، و انعكاسها على مجمل المشهد السوداني.

إن التراجع الذي شهده الجيش السوداني في النهود لا يمكن وصفه بـ”الهزيمة” وفق المنظور العسكري، بل هو انسحاب تكتيكي محسوب ضمن خطة استنزاف أوسع، تستهدف إنهاك القوة الأساسية لمليشيا الدعم السريع، ونقل المعركة إلى مناطق أكثر ملاءمة لضربات الطيران والمدفعية. هذه الحركة تعكس فهماً عسكرياً متقدماً لفنون الحرب الحديثة، حيث لا تُقاس المكاسب بالسيطرة الجغرافية فقط، بل بالقدرة على تفكيك القوة المعادية واستنزافها، وجرّها إلى منطقة الاشتباكات الأساسية لإخراجها من معادلة الحرب.

من الناحية السياسية، يشكّل الهجوم على النهود محاولة من المليشيا لخلق واقع ميداني جديد يعزز موقفها على طاولة التفاوض التي يسعى وكلاؤها السياسيون لتحريكها إقليميًا، حيث ينشطون هذه الأيام في ذلك. لذلك تضع القراءة الموحدة للأحداث هذه التحركات في خانة المناورات السياسية المغلّفة بالعمليات العسكرية، حيث لم تعد المعارك أهدافًا لذاتها، بل أدوات ضغط تفاوضي ضمن هندسة صراع مفتوح بين مشروع الدولة ومشروع الفوضى.

أما رد فعل القيادة العامة للجيش، فقد اتّسم برباطة جأش استراتيجية، إدراكًا منها بأن حرب السودان حرب إرادات. فسقوط مدينة لا يعني خسارة الحرب، بل يمثل طورًا من أطوار المعركة الكبرى التي تُقاس بمآلاتها الكلية، لا بتقلبات ميدانية ظرفية . وهذا ما يتماشى مع المقولة الشهيرة للقائد الألماني “إرفين رومل”: “الحرب شطرنج، المنتصر هو من يفكّر في حركته الثانية والثالثة”.

التحرّك السريع للمليشيا في النهود والخُوى توازى مع محاولات واضحة لإرباك تقدم القوات المسلحة نحو الفاشر، عبر ما يمكن وصفه بـ”الهجمات الموزعة لتشتيت الانتباه”. غير أن الجيش تعامل بحنكة، متجنبًا المواجهات المباشرة، واختار إعادة ترتيب خطوطه وفق خطط مجرّبة.

فقد نفّذ انسحابًا منظمًا من النهود لحماية المدنيين والبنية التحتية، مستدرجًا المليشيا إلى كمائن نارية مدروسة بحسب عسكرين. ويعتمد الجيش في ذلك على سلاح الجو ومتحرّك “الصياد”، الذي أثبت كفاءة قتالية عالية. وتأتي هذه الاستراتيجية ضمن نهج أثبت نجاحه في الجزيرة والخرطوم ومناطق أخرى، بإضعاف قدرات المليشيا، وضرب منظوماتها اللوجستية والقيادية.

أما البُعد الأخلاقي والسياسي في المشهد، فيكشف عن خلل بنيوي في مواقف بعض القوى السياسية، وعن أزمة أخلاقية وسياسية عميقة، تجلّت في صمتها تجاه المجازر التي ارتكبتها ميليشيا الدعم السريع في النهود، والتي أسفرت عن مقتل أكثر من 300 مدني، بينهم أطفال ونساء، ونهب للمستشفى والأسواق، بحسب شبكة أطباء السودان. في المقابل شددت الحكومة عبر وزير الإعلام والناطق الرسمي باسمها خالد الإعيسر، على أن السودان يواجه معركة وجود، رافضة الابتزاز السياسي تحت غطاء العمليات العسكرية، واصفا بعض القوي السياسية انها فضّلت الصمت خوفًا على مصالحها.

النهود كما سنجة ومدني والخرطوم ستعود، ولكن بعد أن تكون قد أسهمت في إعادة صياغة العقل العسكري الذي يدير المعركة، والذي يجب أن يتعلّم من الهزائم أكثر مما يحتفي بالانتصارات. وكما قال المشير عبد الرحمن سوار الذهب: “الجيش الحقيقي يتعلّم من هزائمه أكثر من انتصاراته”. هذا الدرس هو ما يُعوّل عليه في بناء استراتيجية التحرير الكبرى، التي لا تنظر تحت أقدامها، بل تنظر إلى الخرائط الكاملة.

التحوّل الأهم الذي يمكن استنتاجه من معركة النهود، هو نجاح الجيش في إجبار المليشيا على سحب أهم تشكيلاتها من دارفور نحو كردفان، مما يعني خفض الضغط عن الفاشر، وإفساح المجال لإعادة ترتيب الأولويات القتالية، ومنع المليشيا من تركيز قواتها في دارفور.

هذا، وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة، فإن النظر الفاحص للأحداث يعلّمنا أن المعركة شاملة، وأن النصر ليس بالسلاح وحده، بل بالوحدة الوطنية والشرعية الأخلاقية والسياسية. هذه الحرب هي معركة وجود، لا معركة مواقع. وكل تراجع مؤقت هو استعداد لانتصار قادم . ستعود النهود، قريبًا، بوعي جديد، ودروس لن تُنسى. فالنصر يُصنع بالثبات والصبر ووحدة الصف. هذه المعركة، هي اختبار للإرادة الوطنية، وثقة الشعب في جيشه وقيادته. ما دام الشعب موحدًا، والجيش ملتزمًا بخطة التحرير … فهذه هي التفاصيل التي يجب أن تحكي.
دمتم بخير وعافية.
الثلاثاء 6 مايو 2025م [email protected]

اترك تعليقاً

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى