قصائد و مقالات

مذكرات الولد الشقي

الفصل: شارع الموت

✍️: فايل المطاعني

في زوايا الطفولة، حيث تختبئ الذكريات بين قصص الجدات وهمسات الأمهات، تلمع الحكايات الشعبية كنجوم في سماء ماضٍ لا يُنسى. هناك، في قلب عمان الساحرة، تروى الحكايات على نار المدافئ ودفء القلوب. ليست فقط للتسلية، بل حارسة للهوية، وساحرة تأخذنا إلى عوالم مليئة بالغموض والطرافة. في هذه المذكرات، سأصطحبكم إلى شارع “العق★”، حيث تبدأ أولى الحكايات… فاستعدوا للسفر معي إلى عالمٍ لا يُروى إلا بين ضحكات الأطفال ودهشة الكبار.

حينما تعيش في بلد قديم، فإنك حتمًا تسير على أرضٍ تتنفس بالحكايات، ويهمس تراثها في أذنك مع كل خطوة. وعُمان – هذا الوطن العريق – تمتلئ بلداته بحكايات لا تُعد، ولهجات متعددة، وأعراف تختلف من مدينة لأخرى رغم قرب المسافات بينها. هذا التنوّع، ليس مجرد تلوين ثقافي، بل كنزٌ حضاري نفتخر به.

نشأتُ على قصصٍ كانت تُروى لنا ونحن أطفال، بعضها يضحكنا، وبعضها الآخر… يجمّد الدم في عروقنا! ومنبع كل تلك القصص كان شارعاً غامضاً يُدعى: شارع العق★.

يقع هذا الشارع في المنطقة الداخلية من عمان، وكان يومًا ما الطريق الوحيد الذي يربط العاصمة مسقط بالشرقية والداخلية. وكان يُلقب بيننا نحن الصغار بـ”شارع الموت”، ليس لأنه مليء بالحوادث، بل لأنه مليء بالـ… رعب!

أشهر قصة كانت عن رجلٍ عجوز يظهر في منتصف الليل، يقف بجانب الطريق، يلوّح للسيارات. إن توقفتَ له وركب معك، لن يتكلم. لكن ما إن تنظر إلى قدميه… حتى تكتشف الكارثة: رجل حمار! يطلب منك التوقف في مكان مهجور، ثم يختفي وسط الظلام. هذه القصة كانت كفيلة بجعلنا ننام باكرًا دون جدال. أمي كانت تهددنا دائمًا: “إذا ما سكّتوا، بنادي الرجل الحمار!” — وطبعًا، نسكت فورًا. من يجرؤ على تحدّي “رجل برجل حمار”؟!

لكن أجمل القصص لم تكن من الشارع… بل من جدتي. رحمها الله، كانت حكواتية بالفطرة، لديها قدرة عجيبة على نسج الخيال، حتى أننا كنّا نصدق كل كلمة تقولها.

ومن أجمل حكاياتها: “حكاية النحلة”.

في مدينة بعيدة، كان هناك زوجان مسنّان، لا يملكان أطفالاً. كانت المرأة حزينة، تملأها الحسرة، حتى وجدت يومًا نحلة صغيرة عالقة في قطعة عسل، لا تقوى على الطيران. بعاطفة أمّ، أنقذتها، ونظّفت جناحيها، واعتنت بها حتى طارت من جديد.

مرت السنوات، وبدأت الشيخوخة تطرق أبوابهما. وذات صباح، استيقظت المرأة لتجد بيتها نظيفًا، والطعام معدًّا، ولكن لا أحد في الأفق. تكرر الأمر، حتى قال الزوج لزوجته: “دعينا نتظاهر بالنوم، ونكشف السر!”.

وفعلًا، وفي ظلام الفجر، سمعا حفيفًا خفيفًا. فتحا أعينهما، وإذا بهما يشاهدان فتاة شديدة الجمال، تطهو وتغني. تساءلا بدهشة: “من أنتِ؟ ولماذا تفعلين كل هذا؟”

ابتسمت الفتاة، وقالت: “أنا النحلة التي أنقذتموها. كنتُ أميرة، وسُحرت على يد عمتي – زوجة الملك – التي غارت مني، فحوّلتني إلى نحلة عاجزة. لكن حنانكما أنقذني.”

هنا صمتت جدتي، ونظرت إلينا بجدية، ثم قالت: “كل حكاية تحمل سرًا، وكل قلب طيب يُكافأ ولو بعد حين.”
كانت قصصها بسيطة، لكن فيها دفءًا لا يُنسى، ونكهة عمانية خالصة.

هكذا كانت أيامنا، وهكذا كنا نعيش بين الخوف والضحك، بين “الرجل الحمار” و”النحلة الأميرة”، وبين شارع الموت وحكايات الحياة.

وفي النهاية، تبقى الحكايات الشعبية مرآة لروح الوطن، ونبضًا من الماضي يعزف في قلب كل طفل كبر… لكنه لم يتوقف عن الحلم.
مع أطيب التحيات،
الولد الشقي.

اترك تعليقاً

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى