قصائد و مقالات

﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْـًٔا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾

✍️منى جمال

لا شيء أكثر استهلاكًا للروح من شعور العجز أمام الذات. أن ترى قدرتك على إنقاذ غيرك، وانتشاله من هاوية ضياعه، بينما تغرق في قاعك بصمت، كأنك لست جديرًا باليد التي تمدها لكل من سواك.
يبدو أنّ في داخلك شيئًا لا يفنى، لا يذبل، لا يُشفى. شيء يتبدل شكله، يتلون طعمه، لكنه يبقى حاضرًا على نحو لا يُحتمل. كأنه ظلك، لكنّه لا يُشبهك. وكأنك تتعايش مع كيان آخر يسكنك دون أن يمنحك حق الحديث عنه.

تُحسن الإصغاء لارتباك غيرك، تُتقن تهدئة الطوفان في أعينهم، تبتكر لهم نوافذ لم تخطر على قلوبهم، فتغدو حياتهم أكثر احتمالًا، وأكثر صفاءً. ومع ذلك، حين تطرق باب ذاتك، لا تجد إلا الصمت، لا تلمح سوى خواء يردُّ إليك صدى حيرتك.

تعرفك جيدًا، تتأمل عمقك، ورغم هذا، تستغرب ثباتك في مواطن الانهيار، وكيف تنهمر منك الحلول كأنك وُلدت طبيبًا لجراح الغير، بينما جرحك أنت لا تلمسه يد، حتى يدك تخشى مواجهته.

ولم يعد الألم صاخبًا كما كان، بل بات رتيبًا، يمشي معك، يأكل معك، ينام قربك، كأنه صار نمطًا مألوفًا، لا يكسر النسق، بل يشكّله. أنت لا تتظاهر بالتماسك، أنت تُجيده كما يُجيد الجدار حمل سقفٍ يوشك أن يسقط، دون أن يُحدّث أحدًا عن ثقل ما فوقه.

كلما لامست فكرة اللجوء لمعينٍ خارجي، تراجعتَ دون أن تدري لماذا. ليس لأنك لا تُريد النجاة، بل لأنك لا تُصدّق أن في هذه الأرض من يستطيع فهم ما لا يُقال، ولا يُترجم، ولا يُحكى. أنت لا تحتاج إلى علاج، بقدر ما تحتاج إلى شيء لا تعرف اسمه، شيء يشبهك، يراك من الداخل دون أن تُشير إليه.

وقد تكون قد رضيتَ بهذا المسار، لا من باب الاستسلام، بل من باب التصالح المؤلم مع واقع لا يُبدَّل بسهولة. ومهما اشتد الظلام حولك، بقي قلبك نقيًّا، لم يختزن السواد، لم يُلوثه عبور القسوة، لم يتعلم القسوة من دروس الحياة، بل ظل طريًّا، حيًّا، يقاوم التجمد.

أهذا هو الذوبان التام في هوية الانكسار؟ أم هو صبر العارفين بأن ما ينتظرهم ليس مدحًا من أحد، بل وعدًا من ربٍّ لا ينسى من مرّ من بين الأشواك حافيًا دون أن يشكو؟
ذلك الذي قال:
﴿إنّي جزيتُهم اليوم بما صبروا أنّهم همُ الفائزون﴾

فليكن العزاء في الحقيقة الخالدة، لا في التصفيق العابر، ولا في جبر الكلمات. ولتكن الطمأنينة في علمك بأن ما تمرّ به ليس عبثًا، وإن خفي المعنى، فإنّ الحكمة لا تغيب عن عين من خلق الألم ومعه الدواء، وأخفى عنك توقيت الشفاء لتوقن لا لتتوقع.

اترك تعليقاً

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى