
✍️ فايل المطاعني :
لكل إنسان ذاكرة يخبئ بين طياتها قصصًا مضحكة، وأخرى غريبة، وأحيانًا دروسًا صغيرة شكلت جزءًا من ملامحه اليوم. وفي زوايا الذاكرة، تبقى العادات والتقاليد راسخة، تزهر كلما داعبها الحنين.
في هذه الحلقة من “مذكرات الولد الشقي”، آخذكم إلى أيام زمان، حيث كانت الضيافة عنوان البيوت، وكان للغداء طقوس لا تعرفها إلا قلوب الناس الطيبين
الناس هم حاضنات لعاداتهم القبلية، ومهما بلغ الإنسان من علم، تبقى روح القبيلة نابضة في داخله.
من عاداتنا الجميلة في الخليج العربي أن يجتمع أفراد العائلة حول صحن واحد، يتقاسمون لقمة الغداء بمحبة، إذ كانت وجبة الغداء أهم وجبة في اليوم، ومن غير المقبول التأخر عنها. كانت تجمعنا حولها المودة والضحكات والقصص التي لا تنتهي.
ولازلت حتى اليوم، رغم مشاغل الحياة وكثرة المتغيرات، أحرص أن تجتمع أسرتي على مائدة واحدة، كما تربيت في صغري.
أما عن حكاية اليوم…
كان بيتنا مضربًا للمثل في استقبال الضيوف بالحب والتقدير، مهما كان وضعهم، فبمجرد أن يطرق الضيف بابنا يصبح في مقام الترحيب والاحتفاء.
ومن عاداتنا آنذاك، أن يُفرد للضيف “صدر البيت” — أي الصالة الكبيرة — وتُقدم له الوليمة كاملة؛ سواء كانت ذبيحة أو مجموعة من الدجاجات، بحسب مكانة الضيف وقربه أو بعده عن ديارنا.
وذات يوم، زارنا ضيوف من الوزن الثقيل… حرفيًا! فقد كانوا يأكلون كل شيء أمامهم بلا هوادة.
وكعادتنا، وضعنا الطعام كله مرة واحدة أمامهم، وجلسنا ننتظر بأدب حتى يفرغوا من الطعام. كانت أمي تهمس لنا: “اصبروا حتى ينتهوا”، وكنا نصبر رغم أن رائحة الطعام كانت تشعل الجوع في بطوننا الصغيرة.
لكن المفاجأة أن الضيوف التهموا الطعام كله، ولم يتركوا لنا شيئًا… حتى العظام لم تسلم منهم!
لم أتحمل الغيظ، فانفجرت غاضبًا أمامهم قائلاً:
> “يا لكم من ضيوف ثقلاء! أكلتم الطعام كله ولم تتركوا لنا حتى العظام!”
خجل والدي كثيرًا، وراح يعتذر لهم بلطف، بينما أنا كنت أشعر بانتصار صغير، لأنني قلت ما كان يحترق داخلي.
ومنذ تلك الحادثة، أصبح والدي يجهز طعامين؛ واحدًا للضيوف وآخر لنا نحن أهل البيت. ويا لها من فكرة عظيمة! لماذا لم يفكر بها من قبل؟ لا أدري.
الطريف في الأمر، أنني حين كبرت وذهبت لخطبة ابنتهم… رفضوني!
أهكذا يكون رد الجميل؟ أما تزال رائحة طعام أمي عالقة في أيديهم حتى اليوم؟!
آهٍ على الذكريات… فيها من الطرافة ما يكفي أن نبتسم رغم كل شيء.
الذكريات مثل العطر القديم؛ مهما طال عليها الزمن، تبقى عابقة بالمشاعر الصادقة.
نتعلم منها أن الضيافة ليست فقط طعامًا يقدم، بل هي قصص تُحكى، ومواقف تُروى، ودروس تُحفر في أعماق القلب.
وفي النهاية، تبقى الحياة مائدة كبيرة… تجمعنا حولها الذكريات الحلوة والمواقف الطريفة، وكل لقمة فيها قصة لا تُنسى.
ولنا في الذكريات رمقُ حياةٍ لا ينطفئ…