قصائد و مقالات

السعي إلى الكمال المطلق: حفر في بحر لا قرار له

✍️ د. منى جمال :

يشبه السعي الحثيث نحو الكمال المطلق محاولة نقش الحروف على صفحة الماء، أو الحفر في أعماق بحر لا قاع له. إنه سباق عبثي، يخوضه العقل البشري بلا راية للنهاية، ولا استراحة للمحارب. فالعقل، في طبيعته، لا يهدأ، دائم الحركة، دائم المراجعة، دائم المقارنة، وكأنما خُلق ليدور في دوامة من التقييم والتقويم دون أن يبلغ تمام الرضا.

إن ما يبدو للبعض أنه مؤامرة كونية، حيث لا تُثمر الجهود كما يجب، هو في الحقيقة قانون إلهي عميق، ومرتكز وجودي لا فكاك منه، كما ورد في منزل التحكيم:
“لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ”
سورة البلد، الآية 4.

أي أننا لم نُخلق لنبلغ الراحة المطلقة، ولا الكمال المطلق، بل لنجاهد ونتعثر ونتعلم، لا لنتحوّل إلى نسخ مثالية من ذواتنا المتخيلة.

الكمال، حين يتحول إلى هوس، يُصبح لعنة متنكرة في هيئة طموح. هو الذي يجعل الفرد يخوض صراعاته الذاتية كأنها حروب وجودية، يجهد نفسه ليكون مثاليًا في كل شيء: في العمل، في العلاقات، في المظهر، وحتى في الانفعالات. لكنه لا يدرك أن محاولة إرضاء كل المعايير في آن واحد، هو أقصر طريق لأن يفقد ذاته في زحمة المحاولات.

فإن كنت قد امتثلت أمرًا، فإنك بالضرورة مال عن آخر، وإن حاولت احتضان كل الأمور دفعة واحدة، فلا شك أنك ستنزف من روحك ما لا يُعوض، وقد تدفع من صحتك وعافيتك الثمن الباهظ.

الحل لا يكمن في التوقف عن الطموح، بل في تهذيبه. أن نعي أن الإتمام لا يعني الإتقان المطلق، وأن الإتقان لا يعني الكمال. أن نعيد ترتيب أولوياتنا، ونتعامل مع المهام على مراحل لا دفعة واحدة، أن نختار ما يستحق أن نمنحه طاقتنا، ونترك ما تبقى يعبر بسلام دون أن نحمله على أكتافنا.

السعي إلى الكمال لا يجب أن يكون صراعًا مع الحياة، بل رقصة موزونة معها. والنجاح الحقيقي لا يكمن في الوصول إلى القمة، بل في البقاء متزنًا وأنت تتسلقها، دون أن تفقد ذاتك في الطريق.

عبدالله الحائطي

المشرف العام و رئيس التحرير لصحيفة الآن

اترك تعليقاً

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى