قصائد و مقالات

عودة النور إلى ولاية نهر النيل: ملحمة صمود في وجه الظلام

✍🏼 محمود النفيدابي :

في تمام الساعة السابعة والنصف من مساء اليوم، تنفّست مدن ولاية نهر النيل الصعداء، وامتلأت الشوارع بأنوار الأمل بعد انقطاعٍ طويل ومُرهق للتيار الكهربائي استمر منذ عصر يوم أمس، جرّاء عمل تخريبي جبان نفذته مليشيا آل دقلو باستخدام طائرة مسيّرة انتحارية استهدفت محولات سد مروي. هذا العمل المشين لم يستهدف فقط البنية التحتية، بل تعمّد أن يطفئ النور عن قلوب الملايين في ولايات نهر النيل والبحر الأحمر والخرطوم، في محاولة لزعزعة الثقة، وتفتيت الإرادة، وتعميق المعاناة اليومية لشعبٍ أثبت، في كل مرة، أنه أقوى من الانكسار.

لكن، كما هي عادة هذا الوطن في وجه المحن، تتقدم الكوادر السودانية صفوف المواجهة، رافعةً رايات الصبر والانضباط والمهنية. فقد شكّل المهندسون والفنيون والإداريون العاملون في قطاع الكهرباء ملحمة جديدة من ملاحم التحدي والصمود. لم يتوقفوا أمام الخطر، ولم يترددوا أمام حجم الدمار، بل هبّوا – كما الجنود في خنادق المعركة – لإعادة النبض إلى قلب البلاد، وسط ظروف أمنية معقدة، وواقع لوجستي بالغ التعقيد، وإمكانيات شحيحة. هؤلاء هم أبطال هذه اللحظة التاريخية، الذين استعادوا للناس أبسط حقوقهم: حقهم في النور، في الراحة، في مواصلة حياتهم اليومية رغم القبح الذي تحاول المليشيات أن تفرضه بالقوة.

إن استهداف محطات الكهرباء، خاصة المحولات في سد مروي، لا يمكن وصفه إلا بالخيانة العظمى. فهو اعتداء سافر لا يستهدف طرفاً عسكرياً، بل يطال المواطن البسيط، من المزارع الذي يعتمد على الريّ، إلى الطالب الذي يراجع دروسه على ضوء المصباح، إلى المريض الذي يحتاج أجهزة كهربائية للبقاء. إنه نوع من الإرهاب المنظم، يهدف إلى بث الفوضى وضرب الخدمات الأساسية حتى يشعر المواطن بأن الوطن فقد حمايته. لكن الحقيقة أن هذه الأعمال، رغم ما تحدثه من أذى مؤقت، لا تزيد السودانيين إلا تماسكًا وصلابة، بل وتكشف الوجه القبيح لأعداء السلام والاستقرار.

وفي مقابل هذا الظلام المصطنع، سطع نجم العاملين في قطاع الكهرباء، الذين يستحقون منا اليوم كل تحية وتقدير. إنهم الجنود المجهولون الذين يقاتلون في صمت، في محطات التوليد، في أبراج النقل، وفي مراكز التحكم، يسابقون الزمن لإعادة الكهرباء إلى المصانع والمنازل والمستشفيات والمدارس. هم نموذج حي لما يجب أن يكون عليه المواطن المسؤول، في وقت غابت فيه بعض القيادات، وانهار فيه ما تبقى من معاني الوطنية لدى المليشيات.

وإذا كانت المليشيات قد استخدمت الطائرات المسيّرة لتدمير البنية التحتية، فإننا نملك ما هو أقوى: إرادة المهندسين والفنيين، وشجاعة الجنود، وصبر الشعب السوداني. إرادة لا تُقصف، ولا تُخترق، ولا تُكسر. لقد رأينا في الأيام الماضية كيف تنكسر التكنولوجيا الإماراتية أمام الإصرار، وكيف تسقط خطط التدمير أمام فكرة بسيطة: أن الوطن يستحق.

إن عودة الكهرباء ليست فقط حدثًا فنّيًا، بل هي إعلان عن انتصار إرادة الخير على قوى الشر، وانتصار العقول التي تبني على الأيدي التي تهدم. وعلى الرغم من أن التحديات ما زالت جسيمة، إلا أن لحظة اليوم تمثل بارقة أمل، ورسالة واضحة بأن السودان لن يسقط، ولن يُظلم طويلاً، ما دام فيه رجال ونساء يعملون بصمت وبعزم في سبيل الحياة.

في الختام، نرفع القبعات إجلالًا لكل من وقف على أمر الكهرباء، من الجنود إلى الإداريين، من المهندسين إلى العمال، ونعاهدهم أن نحمل صوتهم، ونرفع مكانتهم، ونحفظ فضلهم، فهم اليوم خط الدفاع الأول عن ما تبقى من كرامة هذا الوطن. وليعلم الذين يعيثون فسادًا في الأرض أن النور أقوى من الظلام، وأن صوت الوطن أقوى من زعيق الطائرات المسيرة، وأن السودان لا يُركع.

عبدالله الحائطي

المشرف العام و رئيس التحرير لصحيفة الآن

اترك تعليقاً

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى