السياق السياسي والأمني لإعادة الإعمار
" وجه الحقيقه "

✍️ إبراهيم شقلاوي :
يمثل السودان اليوم حالة فريدة في سياق إعادة الإعمار، فبينما تواجه العديد من الدول تحديات بناء بنيتها التحتية التقليدية، يجد السودان نفسه أمام فرصة لإعادة الإعمار من نقطة الصفر، بعد أن دُمرت بنيته التحتية بشكل شبه كامل بسبب الحرب، التي اندلعت بين الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع بدعم إقليمي وإسناد من بعض القوى السياسية منذ أبريل 2023، لم تقتصر على العمليات القتالية، بل امتدت إلى تدمير ممنهج طال مختلف القطاعات الخدمية والاقتصادية .
مما خلق أزمة إنسانية ممتدة وأدى إلى نزوح الملايين . في ظل هذا الواقع، تصبح إعادة الإعمار إحدى أكثر القضايا إلحاحًا، ليس فقط لتوفير الاحتياجات العاجلة، ولكن أيضًا لوضع أسس تنموية جديدة تعيد للسودان استقراره السياسي والاقتصادي، في هذا المقال نحاول مناقشة اهمية اعادة الاعمار ودور مؤسسات الدولة والفرص المتاحة.
تصريحات وزير الثقافة والإعلام السوداني، خالد الأعيسر، في وقت سابق وفق “منبر الحاكم الإعلامي”، تكشف ملامح السياسة الحكومية في التعامل مع هذا الملف، حيث أكد سعي الحكومة إلى بناء شراكات استراتيجية مع الدول الصديقة لدعم جهود إعادة الإعمار. إلا أن ذلك يثير تساؤلات حول قدرة السودان على تنفيذ هذه الخطط في ظل انعدام بنيات الطاقة والتكنولوجيا الحديثة، وهو ما يعكس الحاجة إلى رؤية استراتيجية شاملة تتجاوز الحلول الإسعافية .
رئيس مجلس السيادة ، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، شدد خلال مشاركته في المنتدى الحضري العالمي بالقاهرة، وفق “أخبار السودان”، على أن إعادة الإعمار ليست مجرد عملية هندسية، بل تمثل معركة وجودية للدولة السودانية. وأشار إلى أن ما ارتكبته مليشيا الدعم السريع من تدمير ممنهج طال الأصول الوطنية ومكتسبات الشعب السوداني، يرقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية، وهو ما يتطلب جهدًا وطنيًا ودوليًا لمحاسبة المسؤولين عنه، إلى جانب إعادة البناء وفق أسس حديثة تضمن استدامة التنمية.
المنتدى الحضري العالمي بدوره أكد أهمية تبني حلول قائمة على تكامل الدعم الإنساني مع التخطيط الإنمائي، من خلال تصميم برامج إسكانية تتيح للنازحين العودة إلى مناطقهم الأصلية ضمن بيئة توفر لهم مقومات الحياة الكريمة.
الكثير من السودانيين الذين اضطروا إلى الهجرة القسرية بسبب الحرب، وجدوا أنفسهم أمام واقع جديد في الدول التي لجأوا إليها، حيث اكتشفوا بيئات إدارية وسياسية مستقرة ونظمًا تنموية متقدمة، ما جعلهم يتطلعون إلى نقل هذه التجارب إلى وطنهم. هذا الوعي الجديد يمكن أن يشكل رافدًا مهمًا في عملية إعادة الإعمار، إذ يمكن استثماره في استقطاب الكفاءات السودانية بالخارج للمساهمة في بناء الدولة على أسس حديثة.
تجارب دولية عديدة أثبتت أن إعادة الإعمار تشمل إعادة التماسك الاجتماعي وتعزيز الفرص الاقتصادية، كما حدث في رواندا التي حولت دمار الإبادة الجماعية عام 1994 إلى نهضة اقتصادية شاملة، عبر الاستثمار في التعليم والتكنولوجيا، مما جعلها واحدة من أسرع الاقتصادات نموًا في إفريقيا. تجربة الصومال أيضًا توفر نموذجًا مهمًا، حيث نجحت بعض المشاريع في دمج الإسكان مع الخدمات الاجتماعية وخلق فرص عمل، مما حفّز العودة الطوعية للنازحين.
يتطلب نجاح إعادة الإعمار في السودان وضع رؤية واضحة تشمل تطوير البنية التحتية المستدامة باستخدام التكنولوجيا الحديثة التي أثبتت فعاليتها في تقليل التكاليف وتسريع الإنجاز، إلى جانب اعتماد أساليب متقدمة في التخطيط والإدارة تضمن تحقيق الاستفادة القصوى من الموارد المتاحة. الاستثمار الأجنبي والمحلي يجب أن يكون جزءًا أساسيًا من هذه العملية، من خلال مراجعة قانون الاستثمار ليواكب المتغيرات الحالية، وابتكار آليات تمويل جديدة تجعل السودان بيئة جاذبة لرؤوس الأموال.
التنمية الريفية تمثل أيضًا عاملًا حاسمًا في استدامة الاستقرار، فإعادة إعمار المدن وحدها لن تكون كافية إذا لم تتزامن مع تحسين الخدمات في المناطق الريفية، لضمان عودة النازحين إلى مجتمعاتهم الأصلية بدلًا من تكدسهم في مراكز حضرية تعاني أصلًا من ضغط سكاني وخدمي.
إعادة إعمار تتطلب دورًا محوريًا من الوزارات المعنية، حيث يجب على وزارة الطاقة والكهرباء العمل على إعادة تأهيل الشبكة الكهربائية التي تعرضت لدمار واسع، بجانب تطوير الطاقة المتجددة وإعادة النظر في مشاريع الطاقة النووية التي قطعت السودان فيها شوطًا متقدمًا سابقًا، إذ ستصبح الطاقة عنصرًا حاسمًا في أي نهضة صناعية أو تكنولوجية مستقبلية. وزارة الري والموارد المائية تواجه تحديًا كبيرًا في إصلاح شبكات المشاريع الزراعية، إلى جانب إعادة تأهيل السدود وقنوات الري التي تعرضت للتدمير، مما يستدعي سياسات جديدة تحقق الاستفادة القصوى من الموارد المائية، خصوصًا في ظل التحولات التي أحدثها سد النهضة .
فيما يخص البنية التحتية، فإن وزارة الطرق والجسور أمام مسؤولية إعادة بناء الطرق والجسور التي تربط بين المدن والقرى، وهو أمر ضروري لضمان تدفق حركة التجارة والخدمات. كما أن إعادة تصميم المدن وفق تخطيط عمراني حديث يأخذ في الاعتبار احتياجات السكان والتوسع المستقبلي. على صعيد الاتصالات، فإن إصلاح البنية التحتية الرقمية وإعادة تأهيل شبكات الاتصالات سيساهم في تعزيز التحول الرقمي، ما يتيح إدارة عملية إعادة الإعمار بشكل أكثر كفاءة، إضافة إلى تطوير منصات تقنية لمتابعة المشاريع.
العاصمة الخرطوم، بحكم كونها الأكثر تضررًا من الحرب، تواجه تحديًا خاصًا في استيعاب سكانها وتنظيم عمليات إعادة البناء، وهو ما يتطلب إعادة النظر في توزيع الصناعات خارج العاصمة، وتحديث المرافق الخدمية مثل المدارس والمستشفيات وشبكات النقل، لضمان استدامة الخدمات . الخسائر الاقتصادية التي تكبدها السودان نتيجة الحرب، وفق ما أعلنه وزير المالية د. جبريل إبراهيم في تصريح نقلته “سونا”، بلغت نحو 100 مليار دولار، مع توقعات بارتفاع الرقم مع استمرار النزاع، ما يجعل تكلفة إعادة الإعمار تفوق هذا الرقم بالنظر إلى الخسائر التي لحقت بممتلكات المواطنين والبنية الإنتاجية.
وهذا يستدعي إعادة النظر في كيفية توظيف الموارد الوطنية مثل الذهب، الثروة الحيوانية، والزراعة، لضمان تمويل مشاريع الإعمار دون الاعتماد المفرط على التمويل الخارجي، الذي غالبًا ما يكون مشروطًا بسياسات قد لا تتناسب مع توجهات السودان .
إعادة الإعمار بحسب ما نراه من وجه الحقيقة ليست مجرد عملية هندسية أو اقتصادية، بل هي مشروع وطني شامل يعيد بناء الثقة بين الدولة والمواطن، ويستلزم تنسيقًا عالي المستوى بين المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص، إلى جانب دعم المجتمع الدولي. الأهم من ذلك، أن نجاح هذه العملية لن يتحقق دون الاستناد إلى الكفاءات الوطنية القادرة على قيادة هذه المرحلة الحساسة بروح من المسؤولية الوطنية، لتجاوز آثار الحرب وإعادة السودان إلى مسار التنمية والاستقرار. وهذا هو السياق السياسي والأمني لإعادة الاعمار الذي يمكن من نهوض البلاد.
دمتم بخير وعافية.
الإثنين 3 مارس 2025 م [email protected]