الشائعات بين مولدها ومخاطرها.. وكيف أبدع الإسلام في مواجهتها؟
بقلم الدكتور/ أحمد علي سليمان
الشائعات بين مولدها ومخاطرها.. وكيف أبدع الإسلام في مواجهتها؟
بقلم الدكتور/ أحمد علي سليمان
عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية
جاء الإسلام من أجل إصلاح الكون والحياة والإنسان؛ لذلك اشتملت تشريعاته على منهج كامل لإدارة الحياة، يرتكز على مقومات عقائدية وأخلاقية وتشريعية مرنة تضمن له البقاء والصلاحية لكل زمان ومكان.. ومن ضمن هذا المنهج فلسفة مواجهة الشائعات.
ماهية الشائعة:
الشائعة عبارة عن خبر أو قصة أو معلومة غير مؤكدة أو كاذبة أو صادقة مُبالغ فيها يُصدرها جاهل أو عدو أو صاحب مصلحة، ويعمل على حبكتها بصورة تكتنفها بعض الغموض والإثارة، من أجل أن تنتشر خصوصًا في الأزمات والمشكلات أو بين أناس بينهم قواسم أو مصالح مشتركة.
خطورتها على الفرد والمجتمع:
والشائعات خطر داهم إذا أطلقت سرت في جنبات المجتمع بصورة ناعمة وخبيثة، فتهدد المجتمعات الآمنة، ولا يقل خطرها عن مخـاطر الحروب بالجيوش النظامية بأسلحتها المدمرة وآلياتها الخشنة.
ونحذر من خطورة الشائعات على الفرد والمجتمع، فكم أبكت الشائعات عيونًا، وكم أدمت قلوبًا، وكم أوغرت صدورًا، وكم زرعت الفتن، وكم فرَّقت بين الأحبة، وكم غرست الشقاق بين الأصدقاء، وكم طلقت زوجات ورملت أطفالا، وكم أعاقت رأب الصدع واندمال الجروح، وكم غيَّبت عقولا وأضاعت مصالح البلاد والعباد، وكم نثرت الحزن، وكم نشرت الخوف من المستقبل ومن المجهول، وكم حطَّمت معنويات، وتسببت في هزائم أمم، وكم أضاعت حقوقا وخلَّفت ظالمين ومظلومين؟!!.
مراحل الشائعة وطرق انتشارها، وكيف يتم التعاطي معها:
وتمر الشائعات بعدة مراحل: تبدأ بمرحلة البث والنشر الأوليّ، ثم تمر مرحلة التلقي، وتأتي مرحلة خطرة وهي مرحلة التحريف والتنميق بالزيادة والنقصان والتهويل والمبالغة الفجة في عمليات التحريف.. وهنا ينشط المغرضون وأعداء الوطن، ليتم إعادة نشرها وعلى نطاق واسع من جديد..
ويساعد على نجاح ولادة الشائعات وانتشارها: الأزمات والظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بالمجتمعات، والمصالح المشتركة، والغموض، وأيضا التدرج وانتهاز بعض السوانح والتنسيق الإعلامي بين المغرضين، ويساعد على الانتشار السريع وسائل الإعلام الجديد ومواقع التواصل الاجتماعي.
وإزاء هذه الشائعات تم التعاطي معها وتلقيها بــ: إما بالتلقي العاطفي وذلك يتم في محيط الفئات الأقل ثقافة أو البسطاء وغيرهم، أو التلقي المحايد من بعض الفئات، أو التلقي النقدي لهذه الشائعة وتفنيدها، والرد عليها..
كيف أبدع الإسلام في مواجهة الشائعات ووأدها؟
إن المنهج الإسلامي في معالجة هذه القضية الخطرة كان واضحًا ومتميزًا، حيث يرتكز على عدة أسس، وهي:
أولا: أنَّه حرص على وأد الشائعات وغيرها من البداية وذلك بتحريم الكذب -وأخواته- تحريمًا جازمًا، واشتد نكير الشارع الحكيم في ذلك.
ثانيا: أنَّه دعا إلى التبين والثبت والتحقق عند نقل الخبر، وتحرى الدقة المطلقة، بحيث يكون مطابقًا لصدقية الواقع، وواضحًا وضوح الشمس في رابعة النهار.
ثالثا: أنَّه أعطى أهل الذكر -كل في مجاله- مكانةً وتشريفًا، قال تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)، فأهل الذكر في الطب هم الأطباء، وأهل الذكر الهندسة هم المهندسون، وأهل الذكر في الزراعة هم المزارعون… وهكذا.
رابعا: أنَّه جعل مروجي الإشاعات من الفاسقين، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ).
خامسا: أنَّه دعى إلى الستر، وكرّه فضح الناس.
سادسا: أنَّه حذَّر من مغبة العواقب الوخيمة جرّاء نشر الشائعات على الفرد والأسرة والمجتمع بل والإنسانية.
وعلى الرغم من أن العصر الذي بُعث فيه النبي (صلى الله عليه وسلم) وما تلاه كان يسيرًا ويتميز ببطء الوتيرة، فإن الإسلام كان سبَّاقًا في استقراء المستقبل بتطوره السريع؛ لذلك جاءت تحذيرات القرآن والسنة من خطورة الشائعات من القوة بمكان؛ كما جاءت مواكبة لعصرنا الحالي وما سيأتي من عصور بمعطياتها في التطور السريع جدًّا.
لذلك فإنني أرى أن إنسان هذا العصر الذي نعيشه بما يمتلكه من إمكانات تكنولوجية واتصالية واسعة الانتشار، عليه عبء متضاعف في قضية التحري والتحقق والتثبت من الخبر أو المعلومة قبل نشرها؛ لأن الشخص أضحى بإمكانه بضغطة زر واحدة أن ينشر شيئًا على نطاق واسع جدًّا، وفي الوقت نفسه لا يستطيع السيطرة عليه أو محوه من سجلات الشبكة العنكبوتية أو محركات بحثها أو خوادمها المترابطة والمتشعبة بعد ذلك.
واجبات المؤسسات المعنية في وأد الشائعات:
لذلك يجب على جميع مؤسسات تشكيل الوعي والسلوك (التربية والإعلام والثقافة والأئمة والدعاة) أن تتكاتف أن أجل تربية النشء والشباب على ثقافة مواجهة الشائعات وتفنيدها من خلال إتاحة المعلومات الرسمية بصورة ميسرة وشفافة، وتكوين التفكير النقدي لدى النشء، والتربية على تشابك القيم، خصوصًا قيم الصدق، وتحري الدقة، والقناعة، ومواجهة الغموض وتوضيح الأمور المشكلة، ومواجهة الجهل؛ لأن الشائعات لا يكتب لها الحياة في البيئات المستنيرة.. كما يجب على الدول أن تتيح لمواطنيها، المعلومات السليمة الموثقة بشفافية وبوضوح، وفي أوعية نشر إلكترونية ميسرة بحيث تُمكن الشخص من الوصول إليها وتدقيقها وتمحيصها ونقدها ومن ثم مواجهة الشائعات.
نسأل الله السلامة لنا ولأولادنا، ولمجتمعنا ولشعبنا..اللهم احفظ مصر شرقها وغربها، شمالها وجنوبها، طولها وعرضها وعمقها، بحارها وسماءها ونيلها، ووفق يا ربنا قيادتها وجيشها وأمنها وأزهرها الشريف، وعلماءها، ,اهلها الطيبين واحفظ شعبها، وبلاد المحبين يا رب العالمين