أيها السودانيون، دعونا نشكر جميع الناس.

" وجه الحقيقه "

✍️ إبراهيم شقلاوي :

في خضم المحنة التي عاشها السودان بسبب الحرب المفروضة عليه، والتي كان ينوي المستعمرون الجدد فرض واقع مخزٍ على بلادنا لم يكن ليحتمله أهل السودان، تكسرت المؤامرة وأُفشل التدبير بفضل بسالة جيشه الباذخ وأبنائه المجاهدين. وجد ملايين السودانيين أنفسهم مضطرين لمغادرة وطنهم بحثًا عن الأمان والاستقرار. هذه الهجرة القسرية لم تكن مجرد أرقام، بل حملت معها قصص الألم والفاجعة والصمود، وكانت اختبارًا حقيقيًا للتضامن الإقليمي والدولي. وقد استجابت العديد من الدول، في العالم العربي وأفريقيا، بفتح حدودها واستقبال السودانيين، مقدمةً لهم الدعم في المأوى والتعليم والرعاية الصحية.

ومن هذا المنطلق، ومع قرب انتهاء الحرب في بلادنا، نشأت مبادرات سودانية تعكس قيم الوفاء والاعتراف بالجميل تجاه الدول التي احتضنت اللاجئين السودانيين. غير أن التعبير عن الشكر يجب أن يكون شاملًا ومتسقًا مع مبادئ الدبلوماسية الشعبية والشراكة القيمية، فلا يقتصر على دولة بعينها، بل يمتد ليشمل جميع الشعوب التي أبدت مواقف إنسانية نبيلة.

في هذا السياق، أعلن رئيس رابطة الشعوب السودانية، الفريق م. عمر نمر، عن إطلاق مبادرة شعبية لشكر مصر تحت شعار “شكرًا مصر، شكرًا السيسي”، خلال فبراير 2025، بالتنسيق مع وزارة الخارجية السودانية والسفارة المصرية في بورتسودان. وتتمثل المبادرة في تنظيم مواكب جماهيرية تعبيرًا عن الامتنان للدعم المصري خلال الأزمة.

هذه الخطوة، رغم رمزيتها، ينبغي أن تكون نموذجًا يُحتذى في شكر جميع الدول التي استضافت السودانيين. فكما رحبت جمهورية مصر العربية بالسودانيين وفتحت أبوابها بكل وفاء وتقدير، كذلك فعلت المملكة العربية السعودية، ودولة قطر، وسلطنة عمان، وليبيا، والجزائر، وتونس، والبحرين، ودول أفريقية مثل إثيوبيا، وإريتريا، وأوغندا، وكينيا وغيرها. إن التعبير عن الامتنان لهذه الدول يجب أن يكون جهدًا تكامليًا، يعكس الوجه الحضاري للسودان، ويعزز الروابط مع محيطه العربي والأفريقي والدولي.

يتميّز الشعب السوداني بتراثٍ غني من الوفاء والاعتراف بالجميل، سواء على مستوى العلاقات بين الأفراد أو في مواقف تاريخية بارزة. فالسودان لم يكن يومًا جاحدًا لمن وقف معه في الأوقات العصيبة، بل ظل يردّ الجميل بشتى الطرق، عبر المواقف الدبلوماسية، أو المساعدات الإنسانية، والتكافل الاجتماعي، وحتى في أدبياته الثقافية عبر الحقب المختلفة، أظهر السودانيون وفاءً واضحًا تجاه الدول التي دعمتهم أو وقفت معهم في محنتهم.

المجتمع السوداني نفسه قائم على قيم التكافل والتقدير، ويتجلى ذلك في العادات الاجتماعية، مثل “النفير” الذي يجسد روح التعاون، والعادات المرتبطة بالضيافة وإكرام الضيف، حيث يُقال إن “السوداني لا يأكل وحده”، في إشارة إلى كرم الضيافة المتأصل في الثقافة المحلية.

هذه القيم ليست مجرد تقاليد اجتماعية، بل هي جزء من الهوية السودانية التي تجعل الشعب يُقدّر العطاء ويردّ الجميل لمن وقف معه. واليوم، في ظل الأوضاع الراهنة، فإن استحضار هذه القيم ليس مجرد خيار، بل ضرورة للحفاظ على صورة السودان كدولة وفية لمحيطها العربي والأفريقي.

إن التعبير عن الامتنان لمن استضافوا السودانيين ليس مجرد واجب أخلاقي، بل هو رسالة تعكس قيم السودان وشعبه، وتعزز مكانته كدولة تحترم العلاقات الإنسانية والدبلوماسية. وعليه، يجب أن يكون الشكر شاملًا ومتوازنًا، حتى تظل صورة السودان إيجابية في محيطه.

إن تجربة النزوح التي مر بها السودان ليست الأولى من نوعها، فهناك العديد من الدول التي واجهت أوضاعًا مشابهة وتمكنت من إعادة مواطنيها بطرق مختلفة. ومن أبرز هذه التجارب البوسنة والهرسك: بعد حرب البلقان (1992-1995)، عاد ملايين اللاجئين بدعم من المجتمع الدولي، من خلال برامج إعادة الإعمار والتعويضات المالية وتوفير فرص العمل.

رواندا: بعد الإبادة الجماعية عام 1994، تبنّت الحكومة برامج عدالة انتقالية ومصالحة وطنية، وعملت على إعادة بناء البنية التحتية واستيعاب العائدين في الاقتصاد. كذلك لبنان وسوريا، مرتا بتجارب مشابهة في نزوح السكان وعودتهم، مع تحديات تتعلق بإعادة الإعمار وضمان الاستقرار السياسي والأمني.

أيضاً ، هناك جانب مهم يجب أن نأخذه في الاعتبار يقع ضمن مسؤلية الحكومة ، وهو أن عودة النازحين تتطلب.. ضمانات أمنية وسياسية واسعة تشجع النازحين على العودة. بجانب برامج إعادة إعمار مستدامة تعالج آثار الحرب على البنية التحتية والخدمات الأساسية. بالإضافة الي إجراءات مصالحة اجتماعية لمنع الانقسامات وتجدد الحرب. ودعم اقتصادي وتنموي يضمن استقرار العائدين عبر توفير فرص العمل وسبل العيش. كذلك معالجة الأضرار النفسية والاجتماعية من خلال برامج الدعم النفسي وإعادة الاندماج.

أما فيما يخص العودة، فإن إدارتها بطريقة مدروسة ومستدامة ستحدد مدى نجاح السودان في تجاوز آثار الحرب واستعادة نسيجه الاجتماعي واستقراره السياسي. فكما استطاعت دول أخرى تجاوز محنها، فإن السودان قادر على النهوض، بشرط أن يستفيد من تجارب الآخرين ويصنع تجربته ويتبنى سياسات حكيمة في إعادة الإعمار والمصالحة الوطنية.

عليه، وبحسب ما نراه من وجه الحقيقة، ليكن شكرنا لجميع الناس كل الشعوب التي دعمت السودان عنوانًا للتقدير المتكامل والوفاء والامتنان ، وليكن التخطيط لعودة النازحين خطوة تستند إلى رؤية استراتيجية تضمن الأمن والاستقرار. عندها فقط، يمكن للسودان أن يتحول من مرحلة الأزمة إلى مرحلة البناء، مستفيدًا من ماضيه ومتطلعًا إلى مستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا.

دمتم بخير وعافية.

الثلاثاء 11 فبراير 2025م [email protected]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى