أمي !

✍️ د_ سلطان الراشد :

سأنعاك قبل أن تموتي ..
سأنعاك لأنني أسمع وأرى ويتقطع قلبي لكنني أتجلد أتجلد ثقة برحمة الله وبموعود الله وأن ماعند الله خير وأبقى .
أراك تصارعين الموت بصبر وجلادة كما عهدنا أم الأيتام التي ترملت عليهم وهم صغار وهي لم تجاوز الثلاثين من عمرها فكانت الأم والأب والمربية والمغذية والطبيبة والحبيبة .
تلك الأم الأمية والتي لاتقرأ ولاتكتب التي ربت وتعبت وشقيت وكان حالها معنا كما كانت تقول لنا ” عاضتكم بسنوني ” من حياة البادية وبيوت الشعر إلى الصنادق ثم البيوت وهي تكدح وتوجه وتسهر وتتعب فجزاها الله خير مايجزي أماً صابرة محتسبة عن أولادها .
سنٍ متقدم ومرض فتاك وجسم ضعيف نحيل .
أموت معك يا أمي في كل لحظة وأنا أرى ذلك ولاحيلة لي لدفعه الا الدعاء والافتقار لجبار الأرض والسماء وتلمس ساعات الإجابة وبذل المعروف والصدقة والتعرض لدعاء الصالحين .
وها أنذا أودعك اليوم الاثنين ١٤٤٦/٨/١١ هـ في جامع الراجحي عامله الله بلطفه وجزاه عنا وعن المسلمين خير الجزاء لنصلي عليك ثم نواري جسدك الغالي الطاهر في مقبرة النسيم .
سأكتب لك ماحلّ بي بعد فراقك !
سأصف لك ما أقاسيه عندما يقال لي ” أمك رحمها الله ” أو ” أمك تطلبك الحل ” كما درجت العامة على ذلك !
نعم أنا ولدك ” جملك ” وبعيرك نعم سأتجلد سأتصبر سأكون جبلاً أشماً منيفاً كما وعدتك وكما عهدتيني وأتذكر تلك الحادثة العظيمة وأصبر عند الصدمة الأولى التي حتماً ستزلزلني !
فعن أنس رضي الله عنه قال: ((مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر، فقال: اتقي الله واصبري. قالت: إليك عني؛ فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوَّابين ، فقالت: لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى ” رواه البخاري
نعم سأصبر كما تريدين لكن قلبي سينزف دماً سيبكي لوحده بصمت بلا صوت ولاصياح لأنك داخله وبقدك إهتزت أركانه واضطربت جدرانه وحق له أمي ذلك حق له ورب الخافقين اللهم أفرغ علينا صبراً وكن لنا معينا ونصيراً !
قال ابن القيم: (فإنَّ مفاجئات المصيبة بغتة لها روعة تزعزع القلب، وتزعجه بصدمها، فإن صبر الصدمة الأولى انكسر حدها، وضعفت قوتها، فهان عليه استدامة الصبر، وأيضًا فإنَّ المصيبة ترد على القلب وهو غير موطن لها فتزعجه، وهى الصدمة الأولى، وأما إذا وردت عليه بعد ذلك توطَّن لها، وعلم أنَّه لا بد له منها فيصير صبره شبيه الاضطرار، وهذه المرأة لما علمت أنَّ جزعها لا يجدي عليها شيئًا؛ جاءت تعتذر إلى النبي كأنها تقول له قد صبرت، فأخبرها أنَّ الصبر إنما هو عند الصدمة الأُولى)عدة الصابرين ص ١٢١
هذا أولاً وأنا سأكون ” جملك ” كما عهدتيني وسأقول كما وصانا حبيبنا عليه الصلاة والسلام ..
إذا أصابَ أحدَكم مصيبةٌ فليقل إنَّا للَّهِ وإنَّا إليهِ راجعونَ اللَّهمَّ عندَك أحتسبتُ مصيبتي فأجرني فيها وأبدلني منها خيرًا. فلمَّا احتضرَ أبو سلمةَ قالَ اللَّهمَّ اخلف في أهلي خيرًا منِّي فلمَّا قبضَ قالت أمُّ سلمةَ إنَّا للَّهِ وإنَّا إليهِ راجعونَ عندَ اللهِ أحتسبتُ مصيبتي فأجرني فيها
الراوي : عبدالرحمن بن عوف | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح الترمذي

وثانياً سأكون معك ولن أتركك في المستشفى وفي المسجد عندما تغسلين وسأجتهد أن أكون أنا من يؤم الناس في الصلاة عليك أمي وأنا من ينزل في قبرك ويلحدك ويقول ” بسم الله وبالله وعلى ملك رسول الله “.
ضعيف أيها الإنسان فمشهد الموت إذا حلّ بك أنساك جبروتك وقوتك مهما كنت ومهما علا منصبك ومكانتك لو كنت ملك ملوك الأرض .
هاأنذا لولا أن ثبتني الله ولولا أن ربط الله على قلوبنا لا أدري مايفعل بنا .
لكنه العزيز الرؤوف الرحيم إذا أنزل القضاء أنزل معه الرحمات والصبر .
لم أرَ نفسي ضعيفاً كيومي اليوم ولم أرَ نفسي مفتقراً كحالي اليوم .
قد كانت أمي وأبي ودنياي التي تفتحت عيناي عليها .
أسلي نفسي بالصبر وبالايات وبما حل بالأولين وأقول لنفسي:-
ليسَ الغَريبُ غَريبَ الشَّأمِ واليَمَنِ *** إِنَّ الغَريبَ غَريبُ اللَّحدِ والكَفَنِ

إِنَّ الغَريِبَ لَهُ حَقُّ لِغُربَتـِهِ *** على المُقيمينَ في الأَوطــانِ والسَّكَنِ

سَفَري بَعيدٌ وَزادي لَن يُبَلِّغَنـي *** وَقُوَّتي ضَعُفَت والمـوتُ يَطلُبُنـي

وَلي بَقايــا ذُنوبٍ, لَستُ أَعلَمُها *** الله يَعلَمُهــا في السِّرِ والعَلَنِ

مـَا أَحلَمَ اللهَ عَني حَيثُ أَمهَلَني *** وقَد تَمـادَيتُ في ذَنبي ويَستُرُنِي

تَمُرٌّ سـاعـاتُ أَيّـَامي بِلا نَدَمٍ, *** ولا بُكاءٍ, وَلا خَـوفٍ, ولا حـَزَنِ

أَنَـا الَّذِي أُغلِقُ الأَبوابَ مُجتَهِداً *** عَلى المعاصِي وَعَينُ اللهِ تَنظُرُنـي

يَـا زَلَّةً كُتِبَت في غَفلَةٍ, ذَهَبَت *** يَـا حَسرَةً بَقِيَت في القَلبِ تُحرِقُني

دَعني أَنُوحُ عَلى نَفسي وَأَندِبُـهـا *** وَأَقطَعُ الدَّهرَ بِالتَّذكِيـرِ وَالحَزَنِ

كَأَنَّني بَينَ تلك الأَهلِ مُنطَرِحــَاً *** عَلى الفِراشِ وَأَيديهِم تُقَلِّبُنــي

وَقد أَتَوا بِطَبيبٍ, كَـي يُعالِجَنـي *** وَلَم أَرَ الطِّبَّ هـذا اليـومَ يَنفَعُني

واشَتد نَزعِي وَصَار المَوتُ يَجذِبُـها *** مِن كُلِّ عِرقٍ, بِلا رِفقٍ, ولا هَوَنِ

واستَخرَجَ الرٌّوحَ مِني في تَغَرغُرِها *** وصـَارَ رِيقي مَريراً حِينَ غَرغَرَني

وَغَمَّضُوني وَراحَ الكُلٌّ وانصَرَفوا *** بَعدَ الإِياسِ وَجَدٌّوا في شِرَا الكَفَنِ

وَقـامَ مَن كانَ حِبَّ لنّاسِ في عَجَلٍ, ** * نَحوَ المُغَسِّلِ يَأتينـي يُغَسِّلُنــي

وَقــالَ يـا قَومِ نَبغِي غاسِلاً حَذِقاً *** حُراً أَرِيباً لَبِيبـاً عَارِفـاً فَطِنِ

فَجــاءَني رَجُلٌ مِنهُم فَجَرَّدَني *** مِنَ الثِّيــابِ وَأَعرَاني وأَفرَدَني

وَأَودَعوني عَلى الأَلواحِ مُنطَرِحـاً *** وَصـَارَ فَوقي خَرِيرُ الماءِ يَنظِفُني

وَأَسكَبَ الماءَ مِن فَوقي وَغَسَّلَني *** غُسلاً ثَلاثاً وَنَادَى القَومَ بِالكَفَنِ

وَأَلبَسُوني ثِيابـاً لا كِمامَ لهـا *** وَصارَ زَادي حَنُوطِي حيـنَ حَنَّطَني

وأَخرَجوني مِنَ الدٌّنيـا فَوا أَسَفاً *** عَلى رَحِيـلٍ, بِلا زادٍ, يُبَلِّغُنـي

وَحَمَّلوني على الأكتـافِ أَربَعَةٌ *** مِنَ الرِّجـالِ وَخَلفِي مَن يُشَيِّعُني

وَقَدَّموني إِلى المحرابِ وانصَرَفوا *** خَلفَ الإِمـَامِ فَصَلَّى ثـمّ وَدَّعَني

صَلَّوا عَلَيَّ صَلاةً لا رُكوعَ لهـا *** ولا سُجـودَ لَعَلَّ اللـهَ يَرحَمُني

وَأَنزَلوني إلـى قَبري على مَهَلٍ, *** وَقَدَّمُوا واحِداً مِنهـم يُلَحِّدُنـي

وَكَشَّفَ الثّوبَ عَن وَجهي لِيَنظُرَني *** وَأَسكَبَ الدَّمعَ مِن عَينيهِ أَغرَقَني

فَقامَ مُحتَرِمــاً بِالعَزمِ مُشتَمِلاً *** وَصَفَّفَ اللَّبِنَ مِن فَوقِي وفـارَقَني

وقَالَ هُلٌّوا عليه التٌّربَ واغتَنِموا *** حُسنَ الثَّوابِ مِنَ الرَّحمنِ ذِي المِنَنِ

في ظُلمَةِ القبرِ لا أُمُّ هنــاك ولا *** أَبٌ شَفـيقٌ ولا أَخٌ يُؤَنِّسُنــي

فَرِيدٌ وَحِيدُ القبرِ، يــا أَسَفـاً *** عَلى الفِراقِ بِلا عَمَلٍ, يُزَوِّدُنـي

وَهالَني صُورَةً في العينِ إِذ نَظَرَت *** مِن هَولِ مَطلَعِ ما قَد كان أَدهَشَني

مِن مُنكَرٍ, ونكيرٍ, مـا أَقولُ لهم *** قَد هــَالَني أَمرُهُم جِداً فَأَفزَعَني

وَأَقعَدوني وَجَدٌّوا في سُؤالِهـِمُ *** مَـالِي سِوَاكَ إِلهـي مَن يُخَلِّصُنِي

فَامنُن عَلَيَّ بِعَفوٍ, مِنك يــا أَمَلي *** فَإِنَّني مُوثَقٌ بِالذَّنبِ مُرتَهــَنِ

تَقاسمَ الأهلُ مالي بعدما انصَرَفُوا *** وَصَارَ وِزرِي عَلى ظَهرِي فَأَثقَلَني

واستَبدَلَت زَوجَتي بَعلاً لهـا بَدَلي *** وَحَكَّمَتهُ فِي الأَموَالِ والسَّكَـنِ

وَصَيَّرَت وَلَدي عَبداً لِيَخدُمَهــا *** وَصَارَ مَـالي لهم حـِلاً بِلا ثَمَنِ

فَلا تَغُرَّنَّكَ الدٌّنيــا وَزِينَتُها *** وانظُر إلى فِعلِهــا في الأَهلِ والوَطَنِ

وانظُر إِلى مَن حَوَى الدٌّنيا بِأَجمَعِها *** هَل رَاحَ مِنها بِغَيرِ الحَنطِ والكَفَنِ

خُذِ القَنـَاعَةَ مِن دُنيَاك وارضَ بِها *** لَو لم يَكُن لَكَ إِلا رَاحَةُ البَدَنِ

يَـا زَارِعَ الخَيرِ تحصُد بَعدَهُ ثَمَراً *** يَا زَارِعَ الشَّرِّ مَوقُوفٌ عَلَى الوَهَنِ

يـَا نَفسُ كُفِّي عَنِ العِصيانِ واكتَسِبِي *** فِعلاً جميلاً لَعَلَّ اللهَ يَرحَمُني

يَا نَفسُ وَيحَكِ تُوبي واعمَلِي حَسَناً *** عَسى تُجازَينَ بَعدَ الموتِ بِالحَسَنِ

ثمَّ الصلاةُ على المُختـارِ سَيِّدِنـا *** مَا وَصَّـا البَرقَ في شَّامٍ, وفي يَمَنِ

والحمدُ لله مُمسِينَـا وَمُصبِحِنَا *** بِالخَيرِ والعَفو والإِحســانِ وَالمِنَنِ
 بعدها سأهل عليك التراب وستنهال الدموع رغماً عني لكنني سأبكي بلا صوت ، دموع فقط كما بكى محمد صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم .
ففي رِوايةِ الصَّحيحَينِ: أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بكَى لموتِه بُكاءَ رحمةٍ لا جَزعًا؛ ولذلك قال: “إنَّ العينَ تَدمَعُ، والقلبَ يَحزَنُ، ولا نَقولُ إلَّا ما يُرضي ربَّنا، وإنَّا بفِراقِك يا إبراهيمُ لَمَحزونون”.
سأقول ذلك وسأقول وإنا بفراقك أمي لمحزون.
بعدها سأقف عند قبرك أدعو قدر مايذبح جزور !
وسأقول لربي ” هي أمي ” أوصيتني بها وقدمتها ثلاثاً على الأب وجعلت حقها بعد حقك وتوحيدك فسبحانك ماأعظمك !
واليوم أدعوك لها ، أكرم وفادتها وأرها مقعدها من الجنة عاملها بلطفك وكرمك أسألك بأعظمك أسماءك وأحبها إليك أمي ربي ضعيفة خائفة وحيده فأمن روعها وأبلغها منزلتها من الجنة مع الأبرار ، يارحمن الدنيا والآخرة ياالله يارب العالمين .
اللهم ، اللهم اللهم بديع السموات والأرض رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ، اغفرلها وارحمها، واعف عنها وعافها،وأكرم نزلها، ووسع مدخلها، واغسلها بالماء والثلج والبرد،ونقها من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس،وأبدلها دارا خيرامن دارها، وأهلا خيرا من أهلها، واجمعها بأبي زوجها في جنات النعيم ، وقها فتنة القبر وعذاب النار.
عندها تقف بي ساعات الدنيا ويتوقف دورانها لأحقق ماقاله الإمام بن عثيمين رحمه الله “وأما الجلوس أو الوقوف بقدر ما تنحر الجزور ويقسم لحمها فهذا قاله عمرو بن العاص -رضي الله عنه- وأوصى به، ولكن هذا ليس من الهدي العام للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولا للصحابة، فهو أوصى به اجتهاداً منه -رضي الله عنه-، وقال: “حتى أراجع رسل ربي” أي: الملائكة الذين يسألونه، والذي أرى: أن يؤخذ بما كان يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويقال: وصية عمرو بن العاص -رضي الله عنه- اجتهاد منه، والسنة قائمة بعدم ذلك.”.
سأنصرف بعدها وقلبي يحترق وألتفت لمن حولي لإخواني أتترك أمي في هذه اللحظة !
الله أكبر ، تسليماً ورضاءاً بقضاء الله وقدره .
لكنها ياأمي مرحلة ومحطة قد كتبها الله لنا وعلينا ” إنك ميت وإنهم ميتون ” وسألتقي بك في عرصات يوم القيامة وعند الجسر وفي جنات النعيم وغير ذلك منا يقدر لنا ، في غير ضراء مضرة ولافتنة مضلة ..
اللهم اجمعني بأمي ومن أحب في جناتك جنات النعيم أحينا في الدنيا على التوحيد والسنة وتعظيمك وحدك يارب العالمين .
مخلصين لك ، والدعاء لك وحدك والذبح لك وحدك لانشرك بك ملكاً مقرباً ولانبياً مرسلاً ولا عبداً من عبادك !
وعلى سنة خير خلفك محمداً عليه الصلاة والسلام .
على ذلك نحيا وعليه نموت لامبدلين ولامغيرين والله خير الشاهدين والحمد لله رب العالمين .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى