جمرة عشق

✍🏼 نجفيه حمادة :

تمشي بتثاقل في شوارع مظلمة كحياتها، كان أول المساء وتحاول جاهدة أن تسرع في خطواتها لتصل لمنزلها بعد عمل شاق طوال اليوم، دخلت المنزل وخلعت عباءة حملها الثقيل فركض نحوها وارتمى بأحضانها سعادتها وطاقتها النورانية وكوكبها المشع “طفلها أنور”، مسح على وجهها وهو ينادي: “ماما، ماما اشتقت لك”، تقبّله قائلة: “وأنا بعد يا نور عيني يا صغيري، إيش سويت اليوم مع الخالة زينب؟” ليرد عليها: “لعبنا كثيرًا وشاهدنا فيلمًا حلوًا وعملنا لك مفاجأة، أغمضي عيونك يا ماما”، فأغمضت عينيها ومسك بيديها وهي تمشي معه ليدخلها المطبخ على رائحة زكية فيرفع صوته: “ماما افتحي ترارا”، “واو ما هذا العشاء الفاخر؟ شكرًا لكم أحبتي، شكرًا أختي الغالية زينب، سأستحم ونجلس نأكل جميعًا لا تذهبي أرجوك، أريد أن نجلس معًا نأكل سويًا”، فقد اعتادت أختها زينب أن تجالس ابنها أنور إلى حين عودتها من العمل.
جاء منتصف الليل لتريح جسدها المتعب من جهادها طوال اليوم لتستلقي في فراشها وعقلها يسافر لمكان آخر، فخوفها من الغد يؤرق منامها كل ليلة، ماذا سأفعل وكيف سنعيش؟ فقد حرمت من حنان أمي وأبي وخذلني من حاربت عائلتي لأجله، انخدعت فيه، حقًا كم أنا مغفلة وغبية، ليته يموت ليموت هذا الإحساس الجاثم على قلبي، نامت ودموعها تبلل وسادتها كعادتها، استيقظت على صوت المنبه لتقوم بتثاقل لحضور جلسة المحكمة لقضية نفقة طفلها المقامة ضد طليقها المدعو سيف وهو حقًا سيف مطعون في قلب آمنة.
آمنة تشبه الكثير من الفتيات اللاتي تأخذهن دوامة العشق لتعمي بصيرتهن وتمحو عقولهن عن كل إدراك، فتاة صغيرة تجرفها تلك الدوامة لتنسيها من أفنوا حياتهم لسعادتها، زهور ثابتة الأغصان تذبلها قلوب الغربان، هذا الذي يسمونه طيشًا يدفع ثمنه الأبناء والآباء وخلف كل ذلك درسًا قيمًا تكتبه الأيام وعلمًا مقدسًا تخطه السنون وكل ذلك خيرة الله. جعلت آمنة الأيام كفيلة بردم كل تلك الأيام الثقال وما بعد الألم غير الأمل. لولا زينب لغرقت آمنة في بحر آلامها، زينب الأخت الصغرى لآمنة والسند العظيم والسور الحصين إن مالت، مر على زواج زينب 17 عامًا ولم يرزقها الله بأطفال فكانت أمًا بالفطرة لابن أختها أنور، ليست هي فقط وإنما زوجها كذلك الذي يعشق أنور وكأنه طفله.
تسكن آمنة في عمارة مكونة من 11 شقة لكنها لم تتعرف على جاراتها، فنظرة الجارات لها عند رؤيتها وكل واحدة تمسك بيد زوجها خوفًا عليهم من آمنة المطلقة والتي تسكن وحدها، إلا أنها تعلم بتقارب بعضهن ببعض وأن بينهن تجمعات وتواصل وهو الدافع وراء عزوف آمنة عن التعرف عليهن فيكفيها قلب زينب وصديقاتها. 7 أعوام مرت لم تر فيها آمنة والديها اللذين قطعا عهدًا بعدم مكالمتها والقرب منها، وكذلك إخوتها الذين يشهقون رعبًا ويشتاطون غضبًا عند ذكر اسمها.
في أحد أيام إجازاتها اتصلت بزينب تدعوها للذهاب معها للتسوق واللعب مع أنور في المجمع التجاري، وحينما كانوا هناك لمحت زينب والديها من بعيد ولكنها لم تخبر آمنة بوجودهما لكي لا تعكر مزاجها، وسبحان الله ما هي إلا ساعة وإذا بهم يسمعون صوت صراخ بدا مألوفًا على مسامع آمنة، شهقت: “أمي، هذا صوت أمي”، فركضت بلا شعور وخلفها زينب تلحقها وحاملة أنور على كتفيها، اقتربت فإذا بها ترى والدها على الأرض يجرون له الإنعاش القلبي ووالدتها تصرخ: “أنقذوه تكفون”، اقتربت آمنة من والدتها وبلا شعور أخذت أمها تستنجد بها “أبوش مات يا يمه، أبوش مات” لترد عليها آمنة: “لا تقولين كذا إن شاء الله بيطيب” فاحتضنت أمها بعد كل تلك السنين.
تم نقل الأب إلى المستشفى على الفور، ولحقت آمنة بسيارة الإسعاف ومعها أمها وطفلها وأختها زينب ولكن الأم لم تلاحظ آمنة أبدًا فدموعها المنهمرة خوفًا قتل إدراكها، وصلوا المستشفى وما هي إلا لحظات وإخوة آمنة يركضون بين الممرات، اختبأت آمنة بعيدًا عن عيون إخوتها تفاديًا للشجار، وقلب أنور المتسائل عن كل ذلك ومن هؤلاء وليش ماما تبكي ومن هذه التي كانت معنا بالسيارة، تساؤلات كثيرة يرددها وآمنة روحها تنتزع من فؤادها لتصرخ: “أنور اسكت شوي خلاص”، أخذته زينب لتلملم الوضع كعادتها، نزلت لمستوى أنور: “أنور حبيبي، هذه جدتك واللي طاح جدك، هما كانا مسافرين وما كنا نعرف بوصولهما إلا هناك في المجمع التجاري صدفة، دقائق ويجيء عمك أحمد يأخذك معه للألعاب”، فاتصلت زينب بزوجها أحمد ليأخذ أنور لأنها مدركة ما سيحصل عند رؤية آمنة لإخوتها.
تمشي آمنة بخطوات ثقيلة نحو والدتها: “ماما، أنا آمنة لا تبكي أنا معك”، رفعت والدتها بصرها: “روحي وقلبي ليش سويتي كذا، اشتقت لك” واحتضنتها حضن المتلهف، “أبوك يا أمون أبوك”، لترد آمنة “ادعي له يا يمه ادعي له إن شاء الله يقوم بالسلامة”، وما إن رأوها إخوتها حتى اقتربوا منها وهم يشتاطون غضبًا منها: “ويش جابك الله ياخذك”، ولكن تقف الأم بينهم وبين آمنة: “خلوها أبوكم بين الحياة والموت مو وقته والدنيا حياة وممات يا عيالي”، وما هي إلا ساعات ويخرج الدكتور ليطمئنهم على حالة والد آمنة بأنها جلطة بسيطة وإن شاء الله بيعديها بدعواتهم واهتمامهم.
قضت يومًا كاملًا في حضن أمها بعد كل هذا الفراق، تمنت أن تكون الظروف مغايرة ولكن يدبرها الله تدبيرًا، تستشعر الأمان أخيرًا، رفعت بصرها “شكرا لله على الرحمات وكيفية تدبيره”، لحل كل معضلة ظنت أنها مستحيلة وصعبة ولكن بيده سبحانه مفاتيح كل شيء. لم يغفر لها إخوتها ولكن ثقتها بالله واستسلامها لأمره كفيلة بحل هذه المشكلة أيضًا.قام والدها بالسلامة بعد أشهر لينير منزله وقربه من الموت استصغر ذنب ابنته فما خسرته من عمر وما لمسته من آلام شفع لها وكان بمثابة عقاب رباني من وجهة نظره.
حملت أغراضها لتعود وتسكن بيت والديها ويعيش صغيرها في كنفهم وتعوض عمرها الضائع وما تبقى من ذلك العمر مباركًا لتسطر لها الأيام سعادة وإنجازات.
ليس عيبًا أن نخطئ فوراء الأخطاء تكمن الدروس، ثق بنفسك دائمًا ولا تجعل الخوف يشلك فرحمة الله محيطة بنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى