الإسقاط والتّناص في رواية “العاشق الذي ابتلعته الرواية” لأُسيد الحوتري
✍️ رائد محمد الحواري :
النص الأدبي الناجح، نص للإشارة والتلميح، يبتعد كل البعد عن المباشرة والتصريح. في رواية العاشق الذي ابتلعته الرواية، والصادرة عن دار الخليج للنشر والتوزيع، عام (2024)، سار الروائي في طريق التلميح مستخدما وسائل عدة منها الرمزية. يستخدم الروائي الرمز في أكثر من موضع في الرواية، وهذا يعد إثراء لجمالية الرواية، وتحررا من قتامة الواقع، وثقل المباشرة. كان الرمز كعنصر جمالي، وأداة لمزج القديم بالشعبي بالحاضر. يؤكد ذلك مشهد مطالبة (يم) برأس بعل. قال (يم) مخاطبا رب الأرباب (إيل): “سلموا إلي ذاك الذي تؤوون/ ذاك الذي تؤويه الجموع/ سلموا إلي بعل بن (دجن) وأنصاره، حتى أرث ملكه” (85). هذا المشهد الأسطوري يستخدمه السارد لإسقاطه على الواقع العربي الرسمي الآن من خلال “تواطؤ بعضها على تسليم بعل للظالم المتكبر المتجبر “يم”. لم يكن الصمت على طلب “يم” إلا تظاهرا بالضعف، وفي الحقيقة كان تخاذلا وتواطؤا، فهل يُعقل أن يعجز (243) إلها من أصحاب السمو والجلالة والعظمة والفخامة بمن فيهم أم الدنيا، (إيلات)، وأبو الكون، (إيل)، أتعجز كل هذه الإلهة عن الوقوف في وجه الطاغية (يم) نُصرة لبعل؟!” (86). تتجلى هنا جمالية رمزية المشهد بإسقاط الماضي على الحاضر، والتي تتداخل فيها الأسطورة مع الواقع الفلسطيني وما يعيشه من قهر على يد المتجبر المحتل، وعندما ذكر الروائي “أم الدنيا” أراد بها إيصال ما تمثله مصر من مكانة، وقوة، ودور في العالم العربي، لكنها لا تقوم بدورها، ولا تتصرف بما تقتضيه مكانتها.
يستمر السارد في الحديث عن واقع الفلسطيني وصراعه مع المحتل، من خلال مشهد آخر يتحدث فيه بعل مع نفسه “فكرت مليا، ووصلت إلى أنّ النصر الهين والسريع والمبين على (موت) لن يتحقق إلا بوقوف باقي الآلهة إلى جانبي، وعندما أجريت تحرياتي، واتصالاتي، تأكد لي أن الآلهة كلها تخشى (موت)، وأن كثيرا من الآلهة الحاسدة ستقف على الحياد متربصة بي ريب المنون، وأما الآلهة الناقمة فستعمل مع (موت) للقضاء عليّ! لم يكن مفاجئا ما وصلت إليه ففي “النكبة” التي كاد أن يتسبب بها (يم) باعتني الآلهة، فقاتلت وحدي، وفي “النكسة” المنتظرة مع (موت) يتكرر الصمت، والتخاذل، والتآمر، والتواطؤ” (98-99). إذن تم استخدام الرمزية في هذا المشهد، وكان إسقاطا للتراث الأسطوري على المعاصرة، في الحالة الفلسطينية تحديدا، وكأن السارد يريد العودة بنا إلى أدب الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، حينما كان يُحظر على الفلسطيني التحدث عن فلسطينيته، فلجأ إلى الرمز كوسيلة لإيصال معاناته، وأمله في التحرر، وبما أن الواقع الرسمي العربي الآن يتشدد عند الحديث عن مأساة الفلسطيني الحاضرة، و(معركة طوفان الأقصى) فلا بأس من استخدام الرمزية والإسقاط من جديد لتبيان أن المنع الذي مارسه الاحتلال في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، تمارسه اليوم بعض من الأنظمة العربية أيضا.
وعن تسلّح الفلسطيني بسلاح فلسطيني محلي الصنع، تقول “براق”، فرس ظريف الطول، لفارسها الذي صنع أول بندقية فلسطينية: “بالتأكيد ستصنع ما هو أكبر وأقوى، فأنت عليان بعل، مع ذلك حذار من أن يحبطك المحبطون! سيطلق المنبطحون والمتخاذلون والمنتفعون والخائنون على بنادقك هذه اسم “البنادق العبثية” أحيانا، و”مواسير زريف” أحيانا أخرى من باب التحقير والتقليل من شأنها، فأعرهم حينئذ أذنا من طين وأخرى من عجين، ولا تبتئس بما يصفون” (141). وكان حديث “براق” نبوءة تحققت، فتواصل التصنيع العسكري إلى يومنا هذا، فقد رأى العالم أسلحة غزة الفلسطينية التي استطاع الفلسطيني بواسطتها مواجهة أعتى سلاح في العالم، وأشرس برابرة في هذا الكون. وما حديث “براق” أيضا عن عدم الإصغاء للقائلين بـ”عبثية” هذا السلاح و”عقمه” إلا نبوءة أخرى توصف من خلالها آراء المتخاذلين والمتآمرين وسلوكاتهم.
كما استخدم السارد التناص القرآني في العديد من المواقف والمشاهد، منها ما جاء في المشهد السابق “ولا تبتئس بما يصفون” (141)، وهذا خير شاهد على انسيابية التناص وسلاسته، فهو لم يأت كإقحام في الرواية، وإنما جاء بصورة سلسلة، يشعر المتلقي بجمالية التوظيف الذي يخدم الفكرة ويعمقها.
ولتأكيد جمالية التناص القرآني وسلاسته، وأهميته في السرد الروائي، ننقل هذا المشهد الذي يتحدث عن دخول ظريف الطول إلى كهف: “وصل إلى الكهف المطل على عين الماء توقف أمامه، سمع صوتا في داخله، فتوجس في نفسه خيفة” (46-47). إذن نحن أمام سرد روائي يتحدث فيه السارد بلغته وثقافته، وبما أنه مسلم ويقرأ القرآن الكريم فمن الضروري والواجب أن يكون أثر لهذه الثقافة/القراءة على ما يقدمه من أدب، وإلا كان خارج السرب، يتحدث بلغة غريبة ولا تنسجم مع ثقافته ولا مع ثقافة المتلقي.
.
يذكر أن رواية “العاشق الذي ابتلعته الرواية” هي الرواية الثانية للكاتب، صدرت بعد رواية “كويت بغداد عمّان”، الصادرة عن الآن ناشرون وموزعون، عام (٢٠٢٣).