هي أو الموت

✍️ محمد فيض خالد:

مادت الأرض من تحت قدميه، حدق جيدا، يستحلب ريقه المتيبس ،نفر عضل ذراعه الأسمر ، امسك بالمرتبة من فوق العربة، رفت على شفتيه ابتسامة لذيذة ، ذابت سريعا ، وهي تصارخ الصبية الذين تجمعوا من حوله ،رمته بنظرة طويلة وهي تسحب الدخان ببطء وتمجَّه، وبصرها شاخص في تراخي ، يلتفت إليها في انبهار طفولي ، لعلها المرة الأولى التي يرى فيها حسناء تدخن ، لم يشاهد من قبل غير ” عدلات ” الداية ، تحامى وراء المرتبة يراقبها ، لمعت عيناه ببريق خاطف ، انفجرت ضحكتها نجلجل، تؤشر ناحيته بيدها البضة توسوس حليها ،قائلة :” انتبه ، لا تكن ارعن ” ، اضطربت يده وسقط حمله ،تشكلت على وجهه ابتسامة مصطنعة يرميها من تحت عين حمئة.
مرَّ أسبوعه الأول في بيتها بسلام ، مبكرا يستيقظ ، يذهب للجامعة ولا يعود حتى يشيخ النهار وتلملم الشمس أبنائها ،يرجع منهوك القوى ، يجر أقدامه في ضعف ،ليلقي بجسده فوق سريره ، لا تزال أمه حاضرة أمامه، بهدوئها المبتسم ،تذيع عيناها الطمأنينة والثقة في نفسه ، يهب واقفا ، يفرد لفافة أمامه ، يشرع في التهام حبات الطعمية الحارة ،ليبدأ مساء جديد بين كتبه وأوراقه.
حتى كان ذات ظهيرة وعلى غير موعد ، وجد والده في انتظاره ، هرول ناحيته يقبل يده ،وقد تأثر وجه الشيخ بابتسامة فرحة ، يرعش فمه بالدعاء، كانت ” عزيزة ” صاحبة المنزل قد استقبلت الزائر وضيفته ، شكرها في امتنان ، نظرت إليه ساهمة تداعب بنظراتها الشفافة الفتى :” إنه مثل والدي ، لم افعل غير الواجب ” ، ومنذ اللحظة توثقت بينه وبينها صداقة وارتباط ،هي التي خلقتها بروحها الحلوة واطلالتها المشجعة ، تهش في وجهه إذا لاقته ،ليجد في نفسه ارتياح وهو يلقي إليها بالتحية ،عجل القدر بالتلاقي ،انجذب إليه وحيدها ” أشرف “، يوقفه يطلب مساعدته في حل واجباته المدرسية ، في تلك اللحظات يهيج سخاؤه ،يجلس على الدرج ويشرع في مدارسته ،مع الأيام ذاب التحفظ ، استبدل الدرج ، وفتحت له شقتها ، ليجد راحته مع تلميذه الذي يتردد عليه في كل مساء ،خلعت “عزيزة ” عنها ثياب حدادها التي لبستها منذ فارقها هي وابنها زوجها المعلم ” فتحي ” ، بدت طازجة في كل شيء ، يتراءى ثراء الأنوثة عبر شفتيها ، التي تقطر حمرتهما في رونق ، تقاوم المشاعر التي ترشح من ملامحها حين تراه ، كل ما فيها ينطق بأنها الأنثى في مصدرها الأول ، كان كلما رآها يرتجف قلبه وقد ابتل بنشوة عارمة ،ينتظر بفارغ الصبر موعدها ،يسارق النظر إليها، فتلهب روحه ، وتثير وجدانه ، تشب نيران الوجد فيه أحاسيسه المرهفة ، مرت الأيام حلوة ، ترى فيه كمال الرجولة وجلالها ، ويرى فيها نعيم الدنيا ، كمولود جديد تشرق الحياة في عينيه لأول مرة.
وذات لقاء ،حاولت كبح جماح عواطفها المتأججة ،لكنها في الأخير لم تفلح ، فضحتها أشواقها ، اندفعت نحوه ، طوقته بذراعيها ، وامطرته بقبلاتها الحانية ، مد يده نحوها في تأثر ، رفع ذقنها ، حدق في عينيها المشرقة بالمرح ، ليقول في حسم :” لا استطيع الحياة بدون ،الآن اعترف ” ، ثم غيبها بين ذراعيه ، في هاته اللحظات تخايلت على وجهها ابتسامة رقيقة ، اسبلت على إثرها جفنيها في رضا تام، اسلم قياده لحبها ، وكلما جمعهما لقاء أنس ،تزداد تباريح فؤاده ، تتضاعف قناعته بأن الدنيا مستحيلة بدونها ،لم يجد من بد إلا مفاتحة الوالد في أمرهما ، انتهز أقرب زيارة للقرية ، خلا له المكان فانتحى بالشيخ جانبا ،استجمع قواه ، واستحضر أمامه ” عزيزة ” تقطر نظراتها بالأمل ، أسرَّ إليه بخبيئة نفسه ، اعلن في شجاعة رغبته في الزواج ، تهلل عندها وجه الشيخ ، اعتدل في جلسته ، وقال وهو يهز عصاه منتشيا :”هذا ما كنت أود مفاتحتك فيه ،عروسك موجودة ،من لحمك ودمك ” ، سرت رجفة خفيفة في أوصاله ،اترجف فرقا ، زاغت عينيه في تشتت ، عاجله الشيخ في ونس :” ابنة عمك ،لم يطلب والدها مهرا ، سترث فدانا من الأرض ، هي خير من يخدم والدتك ويرعاها في شيبتها ” ، تطلع نحو والده بنظرة مشلولة ، شعر وكأن روحه تنسل من جسده الهزيل ، اطلقت عينيه في الفضاء ، بدى النهار أمامه أكثر شحوبا ، تتراقص أضوائه في خفوت بغيض ينذر بالنهاية ، امتلأ حلقه بالمرار ، مرار لم يعهده ، تحامل على نفسه قاوم بكل ما تبقى من قواه ،ليقول في نفس واحد :” ولكني لا أرغب في الزواج منها ،إنني أحب غيرها ، اتفقنا على كل شيء ، لن اكلفك قرشا ” ، مسح الشيخ وجه ابنه في حنق ، قال بصوت مكتوم :” ومن تكن صاحبة النصيب؟” ، ردَّ بصوت مهتز :” عزيزة ” ، ضحك الشيخ ملئ شدقيه ، وقد احتقن وجهه بالدم ، دفعه بعصاته في صدره وهو يقول :” عزيزة ، نعم عزيزة ، الأرملة اللعوب صاحبة البيت ، الآن حصحص الحق ، لقد صدقت نبوءتي ، نجوم السماء أقرب إليكما ، إما الزواج من ابنة عمك ، أو طلاق أمك ” ، شاح العجوز بوجهه ، غام بسحابة من الأسى يكر حبات مسبحته في غيظ ، لم تفلح توسلاته ، تأكد مما عزم عليه الوالد ،لم يجد من بد إلا أن ينزوي بنفسه بعيدا ،مسح الحزن ملامحه فلم تركه إلا كعود البوص المتيبس ،ذبل وجهه ، واختفى بريق عينيه ، يزحف الموت نحوه في كل ساعة ،ينز قلبه الأسى ، تتكدس عذاباته ، وإلى اليوم وهو على حاله ، لم يخرج من محبسه ، فقد عقله ، وهجر شؤون دنياه، ولا أمل في شفائه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى