في انتظار الضوء، فوضى التجنيس وعمق الدلالة

✍🏻د. شذى فاعور:

ما إنْ تواجه ( النصوص والأشياء الأخرى ) إذ بك تلحظ إشكاليةً تصنيفيةً وتجنيسيةً؛ ففي كتابه ( في انتظار الضّوء) يبين طارق عودة أنّ تلك النصوص ليست مجنّسةً بشكل حقيقي، وماهي إلا إحدى طرائق الفلسفة الأجناسية، وتلك النصوص وُضعت بين دفتيّ كتاب؛ لذا فقد توجب مني أن أنظر لها بعين النقد وأنْ أحاول تجنيسها قدر المستطاع .

وقد لاحظت من الصفحات الأولى للكتاب بأنّها مجموعة من كلمات تتوالد لحظيًا بصورة مايكروقصصية، أو على شكل ومضات نثرية لحظية خاطراتية، أو على نمط اختزالات شعرية، لقد امتلأت تلك النصوص بالمفارقات والمشاكسات اللفظية، وكان ذلك التكثيف الاحتشادي للألفاظ السردية الوامضة بمثابة عكس التوقع وكسر حالة الجمود عند قارئها. وإن بدت معظم النصوص قصيرة إلا أنها قد تشكل عالما مكتملا، ويشكل هذا العالم بدوره الذات الساردة بعوالمها ونظرتها حول الحياة . وعلى الرغم من تحفظي من قراءة تلك الأشكال الأدبية قراءة نقدية بسبب سؤال يحضرني بشكل دائم وهو : هل يتوجب على الناقد متابعة النصوص المجهرية الدقيقة وفق متابعات مجهرية سردية لملاحقة متواليات الغموض الإيحائي وضمور النص؟!. ، لكنه ووفق مبدأ التلقي والتأويل فإنّ تأويل النصوص ينحو نحو صراعاته الممتلئة؛ فالنص بكليّته كان يحوي صراعات داخلية؛بعناصره الكليّة أو حتى الجزئيّة أو بعلامات الترقيم التي تمثل امتدادات نفسية وشعورية لكاتبها.
ويبدو لنا أحيانا بأنّ طارق عودة ذكر عبارات هامشية، وأنا لم أستطع تحديد ماهيتها بدقة، وقد كانت وكأنها عبارات محكية فقط دون دلالات حاضرة، لكنّنا بالمقابل وجدنا بعض النصوص لديه وهي محملّة بدلالات الاختزال والمفارقة، فعلى سبيل المثال جاء في ومضة إبليس قوله: ” قد يفسدك إبليس في المرة الأولى لكنّه في المرات التي تليها سيتعلم منك “عودة :٢٢. ومن هنا يحمل عودة دلالات السخرية العميقة من طبيعة البشر السيئة، وينقدها بالعبارة الاختزالية وبإيحائية قصدية تلميحية. أما في ومضة( عدالة ) فهو يقول:
” في مرافعته أمام المحكمة
طلب القلم
الحريّة للنصوص”. عودة : ٣٦.
وأهم ملمح نقدي في هذه الومضة، هو في شخصنة النص وتحويله إلى أنسنة حرفية ناطقة بالدلالات وبالرمزية الداخلية الرافضة لعبودية النصوص. وكان لا بدّ لعودة أن يتشابك مع الوجودية والعدمية والعبثية، حيث بدت العبثية والفوضى الحضورية في شخصنة الذات كما في أنسنة الحبل الذي لاقيمة له ولاجدوى منه إلا بالقتل، في محاولة لنقل الصورة السوداء إلى نقاط أقل اعتامية وانغلاقا، ولكنه الحبل هو ذاته ولاجدوى لتجميله، حيث : “يقترب الحبل بوجل من تلك الرقبة يخشى أن يفشل في مهمته فيصبح عاطلا عن الأمل” عودة: ٣٩. و كما قال في (حديث سوط ) :
“استغرب السوط من قدرته على إيقاع الأذى بأجساد الأبرياء تمنى لهم الصمود لائما نفسه ومنكرا أصله أعاد التفكير فهو مؤلم إذا كان بيد الجلادين وهذا لا شأن له به” . عودة :١١٤
أما عمليات جلد الذات البشرية وإظهار عدمية الخير وتلاشي الشعور بالأمان فقد تجلت في ( امتنان ) حيث يقول:
“يبدي أهل الحي الامتنان ويسمعونه الثناء ويجزلون له الدعاء
كلما أحسن حفر قبر أحد ذويهم “عودة: ٣٧. وظهرت الوظيفة التنويرية الاستشرافية،والبصيرة العلائقية في (بصائر) ،حين قال:
“ذو بصر وبصيره رأى الناس يقعون في حفره ويضحكون من بعضهم البعض وهم يطلبون النجاة والمساعدة في ردمها فوصفه الناس بالمبتدع المتعدي على حقهم بالسرور” عودة : ٣٩.
وعن حضور مرآوية الذات وانشطار الأنا، يذكر عودة في ( ثنائي) قوله:” الذي أزعجه أنهم شطروه بحجه الثنائية ” عودة : ٤٦. وكان لا بدّ من الانقسامات،في سطر وحيد، سطر حمل اللامتناهي من الدلالات النفسية والفلسفية باللاجدوى!.
وأعود وأكرر بأنّ اللاأجناسية كانت مرهقة للنصوص، فقد كانت أحيانا وكأنها تعريفات صوفية لمفاهيم نمطية، مثل قوله في ( ليل ): “أفضل ما في الليل قدرته العالية على الاستماع إلى الأنين”عودة: ٤٨ . أو كانت عبر طرح استفهامات حائرة،لأغراض نفسية ولإيجاد أسباب تبرر أحزان ذاته ومنفاه الحقيقي كما في (سؤال) حين يقول:
” هل
هل بكى الفردوس منفيّاه؟” عودة :٤٩
ويذكر الكاتب جميل حمداوي عمرو في كتابه ( من أجل تقنية جديدة لنقد القصة القصيرة جدا المقاربه الميكروسردية ) أهم ملامح الومضات ومنها : الإيحاء، و الرمزية ،والتكثيف، والتلميح ،واستعمال النفس الجملي القصير الموسوم بالحركية،كما قد تحمل سمات الحذف، والاختصار، والاختزال،
و الإضمار ، و ملامح الانزياح أو الخرق الجمالي* ينظر ص: ١٦. ووجدت ملامح الخرق الجمالي أو الانحراف الأسلوبي بانتهاكه الإيجابي ذي المغزى الفكري الدلالي بومضات عدة ، ومنها قوله في ( ثقوب ): ” الذين عبروا من خلاله تركوه مثقوبا لا ينتفع به” عودة: ٤٩، وقوله في ( ذيل ) :” الذنب ( الذيل ) لا يجافي المؤخرة ” عودة : ٥٥. وقوله في (سفلة) : “يلهث الجلاد يلعن حظه لقد أرهقه السوط بيده طيلة النهار أي حياه هذه ألا يحق له أن يستريح من هذا العناء من أين جاؤوا بكل هؤلاء السفلة ليؤدبهم”عودة:٦٧.
لقد ابتكر عودة بتعدد الأجناس تعددا للحيوات وابتكارا تكراريا لانشطار الأنا وتمثلها بتركيزات مختلفة داخل نسيج ونسق نصوصه النثرية، وربما تحمل بعض نصوصه المختزلة شكل الأمثال والحكم المختصرة.
ويعود بنا عودة لإرهاق الفوضى الأجناسية، وهنا يبث جزءا من ذاتيته في قصائد نثرية، التي تشاركه هي الأخرى انشطاره في عدم وضوح تجنيسها، ففي قصيده النثر ( محن ) يقول:
“أنسلّ نحو الضجيج الذي يرحمني من هول التساؤل
خففت السعي
فسهام القدر لم أعد أحاذرها
حتى السماء تلمست سقوفا تريحها من الانكفاء
بحثت عن شيلوك ويهوذا وبروتوس
فقد صاروا معروفي النتائج
الليل أيضا انتشى حالما
تنسم رائحة القلوب الصغيرة التي تعبر نحوه كشواء
البحر يسره انطفاء الاعين التي ما توانت في ترقيه

وأنت تكتبين أحرف نهاية القصة
وتطلبين من المقل النافرة الدهشة السامقة
فيما فعلته
لا يمكن لأحد من الجبابرة إعادة سكبه
في القلوب الواجفة “
عودة:٦٤
وعلى الرغم من هذه القصيدة النثرية المتناثرة، إلا أن هذيان تلك السطور كان عميقا بدلالاته؛ وذلك حين ذكر شخصية المرابي اليهودي شيلوك ويهوذا بن يعقوب وبروتوس المشارك في قتل يوليوس قيصر ، وتندمج تلك القصيدة النثرية مع فنيات السيرة الذاتية بجزئيات محددة مثل تجردها من الزيف،ووضوحها مع الأنا، وانفتاحها على حقيقتها، وانكشافها التام أمام مرآتها الحضورية، كذلك كان الحديث مع الذات ومع مرآة النفس بطريقة عفوية، يعترف بإخفاقاته ويتجلى بلحظات ضعفه،ويعلن انتهاء شروره .
وتتجلى قمة تلك الفوضى الأجناسية كذلك بتحول تلك النصوص إلى طرائق مختلفة تشابه في شكلها أساليب الحكمة والنصائح، أو بتحولها إلى أساليب مختزلة من اللامعنى أو اللاجدوى أحيانا، فهو يقول في ( حماية ): “أن تكون خاسرا هذا يعني أنك لا تحسد على شيء” .عودة: ٨٩. ويقول في ( أنت ):
” لا يمكن أن تلتزم الصمت حين يكون محدثك هو أنت “
عودة:٩٦ ويقول في ( راحة ) :
” أفضل ما في الموت أنه يريحك من الجدل” .عودة :١٠٣
ويضيف في ومضة ( أسواق ) : “الكحل بضاعه كاسدة في بلاد العميان” .عودة : ١٠٦.
وعلى سبيل تحقيق الذم في صورة المدح، وعلى الطريقة الجاحظية في جلد الآخر بأسلوب المفارقة والسخرية فقد كان طارق عودة، وذلك في ومضته ( خطيب مفوه ) حين قال: ” وكان – لا فض فوه – لا يشق له غبار في الخطابة والإلقاء وصنعة الكلام يتقصد الطرشان في مجالسه”. عودة :١٠٩ . وكما جاء في ومضة ( ثمن ) :
” في تلك الوليمة الفاخرة كان أرخص شيء المدعوون”. عودة: ١١٩.
ومن هنا فقد كانت الفوضى الأجناسية سبيلا لفوضى فلسفية عبثية، لقد كانت وسيلة من تعدد القراءات ومجالات التأويل وانفتاحية النهايات،وتكوين الشخصيات والعوالم المكتملة.لقد كانت تلك الفوضى من حيث اللامعنى عميقة حد انقطاع التأويل وانعدام القصدية . لقد حاول طارق عودة توزيع ذاتيته وتشظيها داخل النصوص، ومن قرأها كاملة وكأنه يقرأ طارق عودة بسيرته الذاتية وتجلياته الصوفية الداخلية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى