المبدع والناقد رشيد مليح يكتب: الزمن اللايقيني..وهشاشة الكائن قراءة تحليلية لقصة “حمامة أو مدينة لا كالمعتاد ” للكاتب سعيد رضواني
متابعة – لطيفه حسين القاضي :
في عملية دائرية للزمن وصيرورة البحث عن معنى الكينونة والواقع،يقوم السارد بتنسيب علائقه المتشابكة مع العالم،وإخراجها من حيزها المطلق واليقيني: العلاقة بين الذات والزمن،الذات والكينونة العليا،(الألوهية)،علاقة الفرد بفضاء المدينة واكتشافه لواقعها الإشكالي والصراع الدؤوب لأجل فرصة عيش،لتحقيق الذات.
السارد شاب يمتلك شواهد جامعية عليا ،ولكنه يعيش غياب المعنى واليقين في حياته،ذلك أن المدينة “الميتة”،لفظته من أحلامه و طموحاته الاجتماعية إلى الهامش،فلا غرابة، أن يرى في الرمز الأيقوني للمدينة ألموسومة برمزية البياض أو استعارة الحمامة البيضاء ،مجرد أكذوبة أو بهرجة معمارية.إنها رؤية ذاتية محضة، لا تنزاح عن التموقع في دائرة التخييل، فالسارد لايكره تلك المدينة المادية والمعلومة جغرافيا،ولا يمقت الدلالات الأيقونية الرامزة في الأصل،للحرية والسلام،(الحمامة)،إنه كما ببدو، يومئ إلى المدينة التخييلية الموازية في ذهنه الشخصي و عبر رؤيته الذاتية،التي أذاقته كأس الإحباط واللايقين .
فلنفترض جدلا،أن قائلا،قد يتساءل:هل يحمل السارد كرها شوفينيا متعصبا،لهذه المدينة،أو غيرها؟
يمكن أن نقول لتجاوز أي التباس وخلط،أو إسقاط، فإن الكتابة هي ضرب من التخييل بالأساس،بل هي جوهر التخييل،الخلاق، الذي يوظف مكون الخيال للتعبير عن الواقع دون أن يعني ذلك تطابقا آليا وانعكاسا مباشرا بين الصورة الرمزية و الموضوع الخارجي .
يحيل مكون الزمن ،في قصة “حمامة أو مدينة لا كالمعتاد”، على لايقينية الزمن كحقيقة ثابتة ،وهشة،تكسر حدود اليقينية والصرامة التي تحيط عادة بالزمن،فالزمن العام المؤطر للأحداث يبدأ من الساعة الثانية عشرة، حيث ينطلق السارد في دورة شاملة لاقتحام الواقع الخارجي للمدينة..ليعود إلى بيته،ويكتشف أن الزمن المثبت على الساعة الحائطية،جامد لايتحرك،ولا يتغير،فالزمن كأنه ميت،وعقارب الساعة الثلاثة ثابتة،تعيش سكونية عدمية،إنها الثانية عشرة،في نهاية دورة الحكي،كما ابتدأت به الأحداث،عند أول لمسة من نسيج السرد .
لعل رؤية السارد للزمن تضعنا أمام سؤال الزمن الإشكالي،هل الزمن الذي يحيط بالمرء زمن حي أم هو فاقد لجوهر الحياة؟
ماقيمة أن يكون الزمن حيا،متحركا،إذا كان كان الفرد ميتا من الداخل،معنى وكينونة؟
هل الزمن هو ما يحيط بنا أو هو ما يحيا وينبض ويعتمل فينا؟لاشك أن الذات الساردة تعيش أزمة وجودية، مجابهة حالة اللايقين،حيث يغدو هذا اللايقين هو الدليل الوحيد على ما تبقى من أثر اليقين..حضور الذات في الواقع الهلامي المنفلت من كل صرامة عقلانية مزعومة.:*١”الساعة الحائطية لاتعلم أن صرامة الفيزياء علمتني بأن ما تشي به من زمن هو مجرد وهم ،ومع ذلك هي فقط من تكتم سر الدقائق التي أنتظر انصرامها…”
إن المدينة الميتة في منظور الكائن الهش، الفاقد للمعنى واليقين، لايجدر بها أن تحظى سوى بأيقونة ميتة مثلها.يقول السارد:*٢لاأنكر أنني أقدر براعة الفنان، لكن ما أكرهه هو أكذوبة الأيقونة المدسوسة في لوحاته،فمدينة ميتة لايجب أن يمثلها إلا حمامة ميتة…”
تتسم لغة القصة بدقة التعبير وبالتكثيف الدلالي ،فالسارد لايسرد الأحداث،بشكل خطي أو تقريري،بل يبئر كل مساحة سردية بثراء التعبيرات المجازية والاستعارية ،ما يخلق جوا من الايحاء والتأويل المتعدد،وهي لغة وصفية حينا،تأملية متسائلة،في أحايين كثيرة،تستنطق أسئلة الزمن والوجود والألوهية ونسبية الذات الإنسانية وقدرية الكائن في الحياة .
إن واقع اللايقينية، وقد ننعته مجازا، بذلك “الدوار الوجودي” التي اعترى ذات السارد في قصة” حمامة ومدينة لا كالمعتاد”، منغمرا في متاهاتها اللامتناهية والآسرة،هو خاصية جوهية تتمظهر في الكثير من قصص الكاتب سعيد رضواني كبنية فنية ودلالية متجذرة.
لاشك أن عناصر الظلية الإيحائية والمراوحة بين الواقع والحلم،الحقيقة والوهم، ينتج،على المستوى السردي، جوا من الغموض الشفيف والتشويق الذي يثري الأفق التأويلي للقارئ.
يبدو أن الكاتب يدعونا ، عبر البناء الدائري والمتشابك للأحداث،إلى انتزاع فسحة للتفكير والتأمل، وممارسة الشك المشروع المضيء،والخلاق للأسئلة الجديدة الداعية لملامسة الأجوبة غير الجاهزة،وذلك سعيا إلى إدراك هشاشة الكائن، ورخاوة الزمن المنفلت،الذي صار يتراءى كسراب،حد الانمحاء و التلاشي ،فيما الذات أضحت تعيش في خفايا عالمها الكامن،عنف الزمن النفسي الشائك أكثر مما تعيش داخل حدود الزمن الواقعي و الطبيعي.
كما يقودنا النص إلى تأمل نسبية الانتماءات الغيرية والهوياتية، التي تصنع شخصية الفرد وتبلور معناها وشعورها بالانتماء:الانتماء إلى الفضاء(المدينة)..الانتماء إلى الذات العليا المطلقة(الخالق)..الانتماء إلى الزمن الهلامي.
إذا كانت” النزعة السليكونية”(كما رأينا سابقا في تحليلنا لقصة” دمية السليكون” ) تتجاوز مفهوم الجسد لتشمل الذات والقيم والمعنى، فإنها صارت، في هذا المقام،ترخي بظلالها حول مكون الزمن بشكل أساس ولافت.
تتخذ الذات الساردة عدة أشكال وتمظهرات في مواجهتها لواقع اللايقين والوهم.
١/الذات والزمن
إن الساعة الجامدة والميتة تدخل السارد في بؤرة أسئلة حتمية، تعزز جذوة الشك:هل خرج من البيت أصلا،وذهب إلى الشارع حيث الناس والحياة وأيقونة الحمامة البيضاء؟أليست الساعة الجامدة، المشرئبة نحو الفراغ واللازمن ،تؤكد أنه لم يغادر المكان؟ أو أنه غادره عبر صهوة خيالاته؟
مما يعيد السرد إلى بدايته الأولى،من خلال رؤية دائرية انتكاسية، تهدم ما حدث،وكأن ما وقع من أحداث لم يكن سوى ضرب من الأوهام والتخيل الهاجسي..إنها استيهامات وخيالات لم تحدث أو كأنها حدثت في متخيل السارد،فقط.
هذه الرؤية الفانطاستيكية للزمن،يوقدها قلق اللاشعور وهواجسه المتضاربة.اللاشعور ،في صراعه مع تحديات الواقع،قد يلغي الزمن أو قد يشوهه ويحرفه،ولعل هذا التشوه لشكل الزمن هو أشبه بما حدث لشخصية تنغو في رواية “1Q84″،للكاتب الياباني هاروكي موراكامي .*٤”أدرك تنغو أن الزمن قد يعتريه تشوه وهو يمضي قدما.فالزمن نفسه متجانس في تركيبه،ولكن ما إن يستنفد حتى يأخذ شكلا مشوها.فقد تبدو مدة زمنية ثقيلة وطويلة للغاية ،فيما تبدو أخرى خفيفة و قصيرة.وفي بعض الأحيان قد ينقلب نظام الأشياء، وقد يتلاشى هذا النظام تماما في أسوء الحالات. “
إن لاشعور السارد يعيش حالة قلق ترسخ هيمنة الواقع النفسي على الواقع الخارجي الموضوعي،كأن الذات تعيش داخل نفسها المستهامة والمأزومة أكثر مما تعيش في الحدود الموضوعية والمادية للواقع،مما يجعل مفهوم الزمن ملتبسا.
يتسم مكون اللاشعور بمجموعة من الخصائص المميزة له،ومن أبرزها مبدأ اللازمنية،حسب فرويد.،(*٥”اللازمنية:إن عمليات اللاشعور عمليات لازمنية،أي أنها غير منتظمة في الزمن ،إنها لاتتغير بفعل انسياب الزمن، وليس لها مطلقا أي علاقة بالزمن”).
٢/الذات والذات العليا..
ربما قد يكون الكون والذات مجرد فكرة في خاطر الذات العليا المطلقة،إنها أسئلة الفطرة والبداهة حول النشأة الأولى،تاريخ التشكل من صلصال الحياة على نحو قدري،لا اختيار للمرء فيه.
“*٦حاصرني هاجس مفاده أن الكون كله ربما هو محض تخيل في عقل إله،وربما كنت أنا مجرد فكرة في مخيلة كائن ما.”
لعل التساؤل الهاجسي للسارد، ينبع من صميم فطرة بشرية تتأمل قدرية الحياة ونشأتها الأولى وتعلقها التكويني بروح الذات العليا،ذلك أن المخلوقات ،عبر رؤية عقدية ووجودية،هي دائما في بال الخالق المتعالي،كلي العلم والقدرة،وما يحدث هنا في الأرض حدث هنالك،منذ الأزل،في اللوح السماوي السري،فالذات الكلية المطلقة لاشك أنها تستحضر مخلوقاتها المشدودة بضعفها البشري إلى الكمال الإلاهي.
هوامش:
٣/الذات وفضاء البيت
إن فضاء البيت يتمظهر في القصة كحيز للوحشة، و منبع للهواجس، و منطلق العبور السريع منه وإليه،،يقول السارد:”*٧غادرت مسرعا بيتي واجتزت الشارع المؤدي إلى الحديقة”.وجدير بالذكر أن هذا الطابع النفسي الإشكالي لفضاء البيت ينطبق على الكثير من قصص الكاتب سعيد رضواني،ونذكر كمثال قصص:(البيت المهجور،دمية السليكون…)..
البيت هو” كوننا الأول”،بتعبير غاستون باشلار،فمن خلاله نكتشف العالم والذات والآخر ،وتتمخض عن مجاله هوياتنا عبر علائق مشتركة،ومركبة، تلف المكان بوشاح رمزي وروحي من المعاني والقيم والرؤى.
كيف يمكن للذات أن تتوحد وجدانيا بفضاء البيت،إذا كانت كل الوشائج التي تشدها بالواقع والعالم تكاد تكون منهارة ؟!
٤/ الذات والمدينة
يعيش السارد علاقة إشكالية مع فضاء المدينة ،حيث يشعر بأنه قدم لها كل ما يملك من عطايا وأحلام دون أن تبادله ذات العطاء لتظل العدالة المرجوة مفقودة:تحقيق الذات عبر الحصول على وظيفة محترمة وتأمين أسباب العيش الكريم .
تجابه الذات بقوة وضراوة،صلابة المدينة بنزعتها المادية،وحضورها الصاخب والمشغول بالتفاصيل والنزوعات.
إنها مدينة ميتة،تخييلية بالأساس، المدينة التي اختزل حضورها الجسد الأيقوني للحمامة البيضاء، حمامة بدت هي أيضا ميتة كموت اليقين والأمل في رؤية السارد للعالم.
برؤية ختامية، وبعد تحليلنا لقصة “حمامة ومدينة لا كالمعتاد”، يمكن أن نقول:لقد استطاع الكاتب سعيد رضواني استنطاق الكثير من الموضوعات والأسئلة الإشكالية، عبر خطاب سردي جمالي، يتسم بارتفاع نبرة إيقاع السرد ،حيث تتداخل الأحداث والفضاءات والشخصيات، مما يعكس النزوع نحو التعبير عن قلق وجودي متجذر، تعيشه الذات،موظفا لغة إيحائية مكثفة تخدم الدلالات والأبعاد الرمزية للنص.
كما يحضر البناء الدائري للأحداث:الانطلاق من فضاء البيت،والعودة ،إليه لاكتشاف حقيقة الزمن الهلامي الميت على الساعة الحائطية.
إن ذات السارد هي ذات دائمة البحث عن الحقيقة الغائبة..الحقيقة المشوبة بنزعة الشك والتنسيب والمواربة.
لعل البحث عن المعنى وتداخل الحقيقة بالوهم حد التماهي،وسقوط اليقينيات الثابتة ،هي السمات الجوهرية التي تميز العالم الحكائي والنفسي لاستراتيجية السرد عند الكاتب سعيد رضواني..ليس في هذه القصة/المبحث،فقط،بل في الكثير من القصص الأخرى.
تتحد قصص الكاتب، عموما،كعروق في كيان قلب واحد لتشكل هوية إبداعية خاصة تمنحها سمة الاختلاف والفرادة.
الهوامش..
*١،سعيد رضواني،قصة،”حمامة أو مدينة لا كالمعتاد “
*٢،نفس المرجع
٤،*١،سعيد رضواني،قصة،”حمامة أو مدينة لا كالمعتاد “
*٢،نفس المرجع موراكامي، رواية 1Q84،المركز الثقافي العربي، ط٢٠١٦،١،(ص ٤٩٦)
٥،كاترين كليمان،التحليل النفسي، تعريب محمد سبيلا،حسن أحجيج،منشورات الزمن،مطبعة النجاح،مارس،٢٠٠٠(ص٣٣)
٦،سعيد رضواني، “قصة حمامة أو مدينة لا كالمعتاد “.
٧،نفس المرجع.