المبدع والناقد محمد الطايع يكتب: قراءة نقدية لقصة “حمامة أو مدينة لا كالمعتاد” للمبدع سعيد رضواني:
متابعة – لطيفة القاضي :
يحدث أحيانا أن يكتمل للأدب وفعل الكتابة، نصاب امتلاك ناصية المعنى، حيث تتماهى تقنيات السرد العالية مع قدرة الفلسفة على النفاذ إلى جوهر الوجود.
وحقيقة هنا.. ألحظ تجسد هذه التقنيات، بين سطور هذا النص القصصي المبهر، الذي اعتمد فن الخداع البصري، أسلوب حكي مكثف.. بشكل احترافي، والذي يجوز اعتباره كإنجاز فني ابداعي حسب أعراف الأدب: ضمن ما يسمى بدهاء الكتابة، كيف ذلك؟ الجواب هنا..
النص يشبه ولو بشكل دائري مجدِّد، على خلاف الكلاسيكي ذي النمط الزمني المرتب. لعبة الألف ليلة وليلة، وعجائبية صندوق داخل صندوق داخل صندوق.. هذا وقد قدم السارد أكثر من مفتاح لللقارئ العادي، والمتعمق على حد سواء.
أولا حدث ذلك وبوضوح من خلال رمزية الثور الذي يعاني ثنائية اللون، والذي ينقلب مباشرة، تحت كشاف تحليل سيميائية الرمز، إلى المواطن المغلوب على أمره، الخاضع للتدجين ولسنوات القهر وسلطة الخداع البصري، إشارة لمنظومات التعليم والتربية ووسائل الإعلام والإعلام الموجه. ليكون “الماثادور” ، معادل السلطة وماشابه من أصحاب المصالح.
تقنية الخداع البصري أو الدهاء ينطبقان على شكل النص عموما وتفصيلا. والخدعة الأخرى تتعلق بالمضمون مجسدا في شخص السارد نفسه، ليكون المفتاح جملة جاء فيها، خيل إلي أنني صرت رجلين.. والتي احتاجت هي أيضا للمزيد من تشتيت انتباه القارئ وذلك عبر إضافة صور لاحقة كقول السارد: أو كنت مجرد كلمة في إبداع قلم، أو لطخة فرشاة ، ومجسم ورقة.
هذا وتشعر طوال النص أنك تشاهد بأم عينيك كيف يخرج رجل من ذات آخر.. ثم يتحول إلى ند له، مما يحيلنا إلى أدب علم النفس، تقاطعا مع الكثير من النصوص العالمية والعربية العظيمة، في السرد مثلا عند الكاتب الأردني جلال برجس، في رواية “دفاتر الوراق” والأمريكي “تشاك بولانيك”، في رائعته “نادي المصارعة”، وفي الشعر عند الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور، حين يقول في آخر قصيدته “الخروج” فليس ثمة من يطلبني سوى أنا القديم.
هكذا حين يتحول الفرد الواحد إلى خصم نفسه، وذلك كله بسبب التراكمات. وترسب مشاعر القهر والكبث.. خاصة عندما يتعلق الأمر بشخص مثقف محبط مهزوم، هو نتاج مراحل أزمة هوية عربية سياسية معاصرة.
حسنا.. ولأني أحب الأدب الرفيع، حدث أن تعثرت مشاعري على عتبة هذا النص، المسمى ( حمامة أو مدينة لا كالمعتاد ) بعدما كنت أفضل أن أكون مجرد عابر يقرأ الكلمات مثل أي زائر لمعرض فني، يكتفي بالتأمل ثم يمضي إلى حال سبيله.. لكنني شعرت بالإثارة حين لمح السارد أننا أمام مشروع سفاح سيكوباتي، يخفي في جيب معطفه مشرطا، في الوهلة الأولى تبسمت وقلت: لعله مشراط التحليل النقدي لفن الرسم.. لكن.. وأنا أتلقى بعض المعلومات التي تفيد بأنه شخص مقهور، غاضب يكره فكرة استخدام الحمام رمزية للسلام في فنون التواصل العالمي، ليقينه أن كل هذا زيف وباطل، تنبهت حواسي أكثر، ثم قلت في نفسي: العلة مقنعة، والدوافع رهيبة. فعن أي سلام يتحدثون؟!
ثم رأيته يهم بإعادة آخر حمامة للسيدة التي ابتاعتها منه، لكن الحمام أصيل وفيٌّ بطبعه، والحمامة تعود من تلقاء نفسها إلى صاحبها الأصلي.. هنا تذكرت ما نتعرض له من استلاب حيث أضحت حياتنا أشبه بسوق عام لبيع كل شيء. بما في ذلك أشياءنا الحميمية، ادباء مغمورون يبيعون نصوصهم لأدباء مزيفين مترفين، أناس يبيعون أعضاء من أجسادهم مقابل الخبز، آخرون يبيعون الشرف والوطن والتراث والهوية والحضارة والانتماء.. لكن عودة الحمامة لصاحبها، تذكرنا أن صفقات البيع مهما كان حجمها، لا تستطيع محو نسبة الشيء إلى صاحبه الحقيقي.
حسنا فكرت.. لو كنت مكان السارد، لما أمكنني إلا أن أكون غاضبا، فبأي حمام سلام يؤمنون؟! وإذن سوف ألاحقه عن كثب، ولن أخسر شيئا مادام هذا المجنون يكدس شواهد علمية، ولديه دراية لابأس يها بالفن، مما يعني أن صحبته مفيدة في كل الأحوال.. ثم اتخذ سبيله نحو بيته. وهناك بدأت عاصفة السرد الدائري الموسوعي.. بنفس الشكل الذي اجتهد كبار أدباء العالم لتحقيقه، حتى وهو يستنزف من بعضهم أعمارا كاملة.
ثم يلح سؤال تقني ضمني طلبا لأجابة.. من قتل الحمامة؟ أي الرجلين يمارس نزوة التنفيس عن غضبه بهذه الدموية؟ كان من الممكن أن أزعم أنه الآخر صاحب المعطف الأسود، هذا لو أني غفلت أن هذا الوصف تعلق بالسارد نفسه في مستهل النص.. لكنه وبعد عدة حركات خداع ذهني بصري تشبه خفة يد السحرة، انسل خارج تلك الصفة، وهو يطوي المشاهد كما لو أنها مناديل ورقية، كما فعل حين تحول رذاذ فم الفنان الملتحي في لمح البصر، إلى رذاذ مطر. وإذن لا حل أمامنا إلا أن نستشهد بالسارد نفسه وهو يتحمل مسؤولية كل فوضى الكاتب ومغامراته، مخبرا قراءه أنه شخص مغرم بالمفارقات.. ثم مرة أخرى يسارع للتمويه البصري نفسه، حيث يصف كنوع من دفع تهمة الرمزية عن بوحه السردي، معلنا أن مفارقاته هذه تجريدية، والحق أنه كان من الممكن أن نسلم أنها كذلك، ما لم نتصف بالقدرة على التحليل واستقراء الرموز.. مادم الفن التجريدي يجسد نوعا من البذخ الثفافي، أو ثقافة الخوف.. أو العبث والهروب من المساءلة في ظل جدلية الاسقاط والصدفة، بينما لا صدفة هنا، لا عبث، ولا خوف.. إنما هي الرغبة الصادقة في محاورة الواقع الصعب الذي يصيب كل من ينظر إليه مباشرة بلعنة المسخ، وكأن الواقع كما قال الأديب الإيطالي “إيتالو كالفينو” يجسد شخص الغولة “ميدوسا” مما يدفع بالكاتب مكرها للنظر إليها، أو إلى الواقع من خلال مرآة درعه.. كما فعل البطل “بيرسيوس” في الأسطورة اليونانية. ليصبح الأدب بمفهوم إضافي.. صانع الذرائع ومستعملها. كما جاء في نهج النظرية الذرائعية في النقد.
وأنا أتحدث هنا عن المسخ حجرا، أراني قريبا جدا الإمساك بسر خفة لعبة النص وبراعته الخارقة، والمتعلقة بقدرة كاتب استثنائي، عبقري ومدهش، حيث نتذكر أننا كنا ومنذ اللمسات السردية السحرية الأولى أمام ساعة متجمدة.. ولكي نفهم كل واقعة غامضة ونزيح كل لبس، تقتضي قواعد البحث الجاد عن الحقيقة، أن نعود للبداية، والكاتب هنا شخص خلوق يحترم قراءه.. متعفف عن فكرة التعالي والتوغل في الإبهام، لأنه عاد بكل تواضع إلى الساعة.. ثم استعان بقوانين الوعي ومنطق اللعب. ثم وضعنا أمام فرضيتين، بعدما كشف لنا أن الحمامة ذات قيمة فارغة ميتة في الأصل، مادامت تمارس زيف العيش في مدينة ميتة في ذهن سارد يؤكد اختلافه عن أهل المدينة المعتادة، الذين ربما يرونها في أذهانهم مدينة حية.. لأنهم ببساطة لم يحملوا هم القلق الوجودي الذي ينوء به السارد، ولم يذوقوا من نفس المرارة والقهر اللذان عاشهما.
هذا المفهوم نفسه سوف ينعكس على شخصية المرأة التي تنتظره، فيخبرنا أن وجودها عبثا، وأنه يسهل عليه تحويلها إلى وهم… هكذا بكل عنف وجبروت.. نكتشف أننا نقرأ لكاتب زرع لغما وسط نص هادئ.. لماذا..؟ كلنا نعرف الجواب، ونعرف مأساة مالك الحزين وقول الحقيقة، منذ أقدم عصور الحكمة، حتى قبل اختراع الكتابة، واكتفاء البشر الأوائل بالحديث الشفاهي والرمز، وتصوير المآسي على جدران الكهوف..
لماذا مرة أخرى؟ لأن الأدب يمنح وعن جدارة سدنته المخلصين وسام فارس نبيل، لأن الأديب ليس شخصا ضعيفا إطلاقا، مقارنة بأكاذيب العامة ومن دونهم أو فوقهم.. ومادامت الكتابة مسرح رد اعتبار الأدباء خاصة والانسانية عموما.
وكخلاصة أقول: كم هو صعب ومفيد أيضا، أن ندرك قبل اسدال ستار نص القصة القصيرة الحكائية بامتياز، هول فاجعة الزمن الذي نعيشه، زمن الحلم المعطل.. فنحن فعلا ضحايا زمن حجري متجمد.. وهذا الحبر العراب.. يخبرنا ألا قدرة لنا على التمييز بين منتصف الليل حيث لاشيء غير الضلال، وبين منتصف اللنهار. حيث أمل الانصاف الموعود.
شكرا للكاتب العبقري.. سعيد رضواني. كل التقدير والاحترام.