شعرت اليوم أني إنسان

✍️ صالح الريمي :

المعلم ليس موظفًا تنتهي عملية تقييمه ومتابعته ببرنامج حضور وانصراف أو مشرف ممر يلحظ دخول وخروج الطلاب، أو تدريس مادته وكفى، المعلم هو المسؤول عن عجينة الأرواح الغالية في الفصل، وعن صناعة أرواح الجيل القادم، بجدارة واهتمام وحب وإخلاص، المعلم لغة الثقة، وتعزيز المكانة، وإعطاء الصلاحيات التي تليق به..
المعلم هو الإنسان الوحيد الذي تتاح له من الفرص لخيانة الأمانة ما لا تتاح لغيره! هناك إمكانيات كبيرة يستطيع من خلالها أن يخون الأمانة، لو أراد ذلك! ولكنّه دائمًا وأبدًا لا يريد ذلك، لأنه إنسان قبل أن يكون معلمًا، ولا قيمة للأبراج العالية، ولا قيمة لناطحات السحاب، مثل بناء الإنسان، فهو القيمة الحقيقية في هذه الحياة.

يقول أحد المعلمين:
كنت معلمًا أدرس فى مدرسة ريفية، وفي كل يوم كنت أرى خارج الفصل جانب الشباك بنتًا مسكينة وجميلة تكسوها البراءة تبيع الخبز لأمها في الصباح، وقد انقطعتْ عن التعليم بسبب الوضع المادي لأسرتها، فلديها أربعة أخوة صغار، ووالدهم متوفي وهي تسهم مع أمها في مصاريف معيشتهم ببيع الخبز عند المدرسة..
في أحد الأيام كنت أشرح درسًا في الحساب، وبائعة الخبز تتابعني من شباك الفصل وهي بالخارج، فسألت سؤالًا صعبًا وخصصت له جائزة، ولم يجب عنه أي تلميذ، وما لبثت أن تفاجأت بأن بائعة الخبز تؤشر بأصبعها من خارج الشباك وتصرخ: سيدي سيدي سيدي، فأذنت لها بالإجابة، فأجابت، وكانت إجابتها صحيحة!

منذ ذلك اليوم راهنت عليها، فتكفلت برعايتها وبكل مايلزمها من مصاريف على نفقتي ومن مرتبي القليل، وعلى قدر ما أستطيع من أمور بسيطة تساعدها على التعلم، واتفقت مع مدير المدرسة على أن يتم إعادة تسجيلها بالمدرسة وكانت المفاجأة في نهاية السنة عندما ظهرت نتائج الاختبارات، كانت هي الأولى على المدرسة.!!
وسارت على هذا النهج برعايتي وإشرافي اليومي عليها الى أن أوصلتها بفضل الله للمرحلة الثانوية، وهنا تم نقلي إلى مدينتي، ولم يكن هناك هواتف في ذلك الوقت لكي أواصل متابعة أخبارها، وانقطعتْ صلتها بي لمدة 20 عامًا، وبعد ذلك الغياب صادف أن ذهبت مع صديقي إلى العاصمة وكان لديه إبنًا يدرس بكلية الطب فطلب مني أن أرافقه إلى الجامعة!

وأثناء دخولي الجامعة مع صديقي مكثت بعض الوقت في الكافيتريا، فإذا ببنت شابه تحدق بي بشوق، وقد تغيرت معالم وجهها عندما رأتني، وأنا لا أدري لماذا تحدق بي بهذا التأثر؟ فسألت إبن صديقي إن كان يعرف هذه المرأة وأشرت إليها خُفية؟ فأجابني: نعم بالطبع، بالرغم من عمرها الصغير إلا إنها البروفيسورة التي تُدرس طلاب كلية الطب..
فسألني: هل تعرفها يا عمي؟ قلت: لا، ولكن نظراتها لي غريبة جدًا! وفجأة وبدون مقدمات جرت هذه المرأة نحوي وهي تبكي بحرقة، وبصوت لفت أنظار كل من كان بالكافتيريا! وظلت لفترة وهي تجهش بالبكاء وتقول لي: ألا تذكرني يا أستاذي؟ أنا البنت التي كانت حطام إنسانة، وأنت صنعت منها إنسانة ناجحة.

أنا البنت التي كنت السبب في رجوعها للمدرسة، وصرفت عليها من حرِّ مالك حتى وصلتُ إلى ما وصلت إلي اليوم! وذلك بفضل الله ثم رعايتك وإهتمامك وموقفك الإنساني الفريد، أنا إبنتك لمياء “بائعة الخبز”!! فكدت أن أقع مغميًا عليَّ من دهشتي وشدة تأثري من جانب، وفرحي بها من جانب آخر،
ووالله بكيت كثيرًا عندما تذكرت كيف كانت؟! وكيف أصبحت على ماهي عليه اليوم؟!
ثم دعتني أنا والذين معي ومجموعة من الزملاء إلى منزلها، وأخبرت أمها وإخوتها والموجودين عني، وهي تتحدث عن المعلم الإنسان الذي ساندهم، وكان سببًا في تغيير مجرى حياتهم، فألقيتُ كلمة قلت فيها جملة واحدة وأنا أبكي: لأول مرة في حياتي أشعر أني معلم وإنسان، انتهت القصة ولم ينتهِ الكلام.

*ترويقة:*
المعلم رسالة إنسانية، وسيل عطاء متدفق، المعلم رسالة تبدأ من إيمانه بقيمته وأهميته، إذ أنّ إيمانه برسالته وقناعته الصلبة بها تجعله معلمًا ناجحًا، وفرحًا، ومندفعًا، بأن يكون إنسانًا قبل أن يكون معلمًا يُهدي نفسه لطلابه بما يحمله من مثُل وقيم وحب واحترام وصداقة وودّ ورأفة..
يعطيهم من قلبه قبل الكتاب، يبني كيانهم، ويُربّت بعطف على أكفّهم وأكتافهم، ويلمس قلوبهم بكلمات شفافة تزرع في أعماقهم أثرًا طيبًا وتروي نفوسهم بالأمل والطاقة وتكسبهم قوة لمجابهة أيامٍ جافة وتمنحهم العزيمة للتقدم لصنع أحلامهم وأمانيهم.

*ومضة:*
إن من صفات الأبرار التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في سورة الإنسان أنهم يفعلون الخير لوجه الله لا ابتغاء للجزاء ولا الشكر..
فيا أيها المعلم فكر في صناعة إنسان يكون له أثرًا في الحياة وأبني في طلابك واستثمر فيهم روح يمتدُ لبناء مستقبلهم الجميل، فلا شيء قد يُمنح كعملٍ من القلب كما يكون “التعليم”، فلا أحدٌ يمنحُ بطيب خاطر كما يكون المعلم الإنسان.

*كُن مُتََفائِلاً وَابعَث البِشر فِيمَن حَولَك*

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى