حكايات من الواقع
الحكاية الاولى رحمة
✍️د. ريم الحشار :
تمر صورهم في احلام يقظتك؛ وتشعر بهم وبوجعهم ومعاناتهم. فتُسرد في مخيلتك حكاية ما
تتسائل!؟ هل هي احلام وافكار
ام انها رسائل سماوية توصيك بهم
ليأتيك الرد
فتسعد بلُقياهم وتقر عينك وتطمئن عليهم
وما تلبث
الا ايام
تسمع فيها خبر فراقهم لهذه الدنيا الفانية
و للابد
فهل هي رسائل ام افكار!
في مساء ربيعي من شهر ابريل من العام 2015 وبعد يوم شاق في العيادة النهارية في المركز الصحي وقد كنت في وضع استرخاء منزلي على سريري اشرب الشاي في وضع دافئ ولطيف.
واذا بي في منتصف ساحة المستشفى الجامعي ورحمة امامي تقول “وصيتك عيالي” وهي تكررها! ففقت وانا استعذ بالله من الشيطان الرجيم ونبضات قلبي تتسارع ؛ واذا به حلم يقظة !
كان عملي فاليوم التالي يبدأ في الفترة المسائية وينتهي قبل العاشره ليلا. فبينما كنت اعمل في المساء راودتني ذكرى البارحة. ولكنني تعمدت عدم التركيز عليها لاكمال عملي. وقبل انتهاء العمل اذ بي اري رحمة على شباك الصيدلية لاستلام الادوية. ابتسمت وانا أهرول باتجاهها واقول ” رحمة حلمتك البارحة, والحمدلله اني رايتك اليوم واطمئن قلبي رحمة تناظرني بابتسامة خفيفة صامتة. ناولتها بعضا من الريالات التي كنت احملها ظنآ مني انها كفاره الحلم.
فمن هي رحمة؟
رحمة هي زوجة لرجل يعاني من اعاقة ذهنية وام لبنات وولد كلهم مصابين بنفس اعاقة الاب عدا الاكبر وهي متزوجة والاخرى تعاني من مرض دم وراثي شديد وهو الثلاسيميا. اسرة من ذوي الدخل المحدود. تعرفت عليها عندما شدني صمتها ونظرتها الحزينة عندما كانت تدخل علي هي وبناتها. و الابتسامة ترتسم على وجوههن. ولكن كلامهم كان مقتضب جدا. ففي كل زيارة اراهم فيها كنت كالذي يعصر الكلام منهن لمعرفة التاريخ المرضي. وما كان يسعدني انهم حين يرتادوا المركز الصحي ياتوا كلهم. لم اكن اعرف تفاصيل كثيرة عن الاسرة. ولكنني في يوم من الايام رايت رحمة والصمت اليائس يتجسدها ونظرة الخذلان تلبسها. فطلبت من بناتها ان ينتظروا في الخارج و اغلقت الباب لكي استمع لرحمة في غرفة الطبيب.
وبعد معاناة من محاولتي سؤالها عن حالها انطلقت رحمة بالحديث وأنها يئست من هذه الحياة. فلا معيل ولا سند ولا طبيب لجراحات قلبها. فهي المدافع والمتصدي لفوران والد البنات وغضبه وتعديه عليهم. وهي المدبر لقوت يومهم وهي العاقلة والصابرة والمتحملة لكل المعاناة الصحية والعقلية والمادية لهذه الاسرة. كان صمتها يأس وكانت نظرتها ظلام دامس وكان جسدها بلا روح وقلبها بلا نبض.
تقطع قلبي عليها, وكنت احاول مساعدتها بما استطيع واقدر. فرغم ظروفها السيئة لم اراها يوم تطلب او تسأل المساعدة ,وهي كالذي تنطبق عليها الآية القرانية “يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف” مضت الايام و الاشهر وتعمقت علاقتي بها فكنت الطبيب المعالج للاسرة وكانت كل ما ترتاد العيادة هي وبناتها , يضعهم طاقم التمريض في مجموعة الدكتورة ريم.
واستكمال لمساءات ابريل: فقد كان ذلك الاسبوع اخر اسبوع لي قبل بداية اجازتي السنوية. وكنت سعيدة جدا. فبعد يومين من بدء اجازتي ذهبت للمركز لاخذ بعض الادوية الدورية لاسرتي. واذا باحدى ملائكة الرحمة والتي كانت من ضمن الطاقم الذي يعلم بعلاقتي برحمة واسرتها تقول ” دكتورة امس جات رحمه تسال عنك؟” فسالتها ان كانت تعاني من شي فقالت ” عملت الضغط والسكر وراحت” فقلت الحمدلله ورحلت في رحلة الاستمتاع بالاجازة السنوية
وعند عودتي, طلبت مني احدى الممرضات ان اتمالك نفسي وان اهدي من روعي. وكنت احسبها تريد اخباري بقانون جديد او مناوبة ما او ما اعتدنا عليه من اخبار فالمركز. ولكني افاجئ بها تقول:
دكتورة
رحمة توفت!
فقلت: من رحمه؟! وكأنني لا اريد تصديق الرؤيا
فقالت مريضتك ام البنات
مررت بحالة من الصمت الذهني وانغلقت كل سبل التفكير والادراك لدي .. لثواني!
بعدها سالتها : وكيف ماتت؟
فقالت: توفت في نفس اليوم الذي اتت لتسأل عنك! كانت زيارتها للمركز الصحي في العاشرة والنصف صباحا وتوفت بعد صلاه الظهر.
فقلت: وكيف بالضبط ماتت؟
قالت: قالوا انها ذهبت لتصلي الظهر واخر ما قالته لبناتها “خلوني اريد ارتاح شوي” وعندما أرادوا ان تفيق لتناول وجبة الغداء وجدوها قد فارقت الحياة وذهبت الى رحاب البارئ”
فنهضت وهرولت سريعا لغرفة المعاينة لاتفقد اخر تدوين للمعاينة قبل ان تتوفى. واتسال بيني وبين نفسي هل كانت نوبة سكر! ام ضغط! ام ان الهم والحزن قد امتص منها اخر انفاسها؟! وبعد البحث خلصت الى نتيجة واحدة؛ فقد كانت نتائج المعاينة طبيعية جدا. استخلصت انها قد تكون ذبحة صدرية لذلك اتت للمركز لتشكي لي وجعها لانها لم تتعود الشكوى ولا الكلام لاحد فلم تجد من اعتادت ان تسمعها بلا حكم عليها او تذمر منها ومن وضعها المؤلم, بحثت عن من ظنت انها ستمنع قضاء الله وقدره عنها!
ظلت ذكرى رحمة في قلبي الى يومنا هذا. كنت في وقتها قليلة الحيلة وقليلة الخبرة، لم اعرف كيف أحافظ على وصيتها, لم استطع المحافظة على بناتها واسرتها. لم اعرف الوسيلة. وبعد محاولات مبعثرة لتنفيذ الوصية. استسلمت لقلة حيلتي ولحزني ويأسي من تنفيذ وصية رحمه. وكان هذا ايضا بعد ان شعر زميلاتي ان لم يكن في وسعي عمل اي شي للاسرة وللبنات. فحياتهم كانت مأساة بكل ما تعني الكلمة من معنى. فبصيص الامل الذي رأته رحمة في اهتمامي بهم لم يكتمل. فبغيابها غاب السند والمعيل والحضن الدافي والامان عن اسرتها ولم تكن محقه, فلم استطع ان احل محلها ولا ان اصبر صبرها.
وبين كل تلك الاحداث لم يسندني في قمة يأسي سوى … بوحي لها:
يا رحمة
مال الحُزنِ اضناني
وبُّتُ اذكرُ خِلاني
أُقابِل الليلَ في وجعٍ
وليلي ذاقَ احزاني
آيّا رحمةُ قربَ اللهِ سُكناكي
وفي الروحِ حُبُكِ واللهِ أشجاني
تباتينَ القبر في رَغدٍ
ورؤيا العين شاءت سَردَ ذِكراكي
شقت روحي بما سمِعت
وأبْت أُذُنايَ تصديقي
أما واللهِ لا اعرف
بأيً لوعةٍ ذا اليومَ التاعي
قتلتِ الموتَ في فرحٍ
وصيِّةَ للهِ أهديتي
فمالي أُسامِرُ أحزاني
ومالي بلوعةِ المكبوتِ التاعي