إيقاع الرجز في متاهات الوطن … شعر توفيق ومان

بقلم الدكتورة عواطف سليماني  / جامعة تبسة / الجزائر

وجه التسمية بحر راجزٌ يتناوب فيه المد والجزر، والحركة والسكون، لغضب أو تغير حال، أو لعلة، أو مرض، كما تعتل الساق فترجز في مشيتها، ثم تسكن فيخف عنها الألم، ويسكن الشاعر لحظة تأمله، ثم ينظم شعرا يكون كل مصراع فيه منفردا بيناً، أي بعد كل شطر بيت وتسمى قصائده أراجيز، والواحدة أرجوزةٌ، وهي مقصودة في البناء، ومنهوكة، أو مشطورة، وأحيانا تامة، هكذا لقي الرجز عناية كبيرة لدى الشعراء القدامى والمحدثين، خاصة فيما تعلق منه بغريب اللغة الفصيحة، وبناء اللهجة العامية، هذه التي تمتاز عن الفصيحة بعدة خصائص منها: تقطيع العبارات والجمل الاعتراضية، وغرابة اللفظ، وغزارة المعلومات، والإخبار عن الحقائق المجردة والنبوءات، ولكن قليلون ممن يجمعون بين كل هذه الخصائص، إلا من أوتي باعا وخبرة في مجال نظم الشعر بعد أن ولى عهد العناية بفن الأرجوزة؟


الرجز في اللغة تتابع الحركات وارتفاع الأصوات، بارتفاع خفيف وسريع، لأنه يقوم على التفعيلة
الواحدة، التي بدورها تقوم على الحركة الدائبة على حد تعبير محمد الهادي دحاني أحد أعمدة رابطة
أدباء الشام… ثلاثة قصائد للشاعر توفيق ومان قاسمها المشترك الوطن وما حل به؟ ( فلسطين،
عبرائيل، وين العرب؟) تجربة شعرية ولدت من رحم شعب مكافح عاش ويلات الاستعمار الفرنسي على
مدي قرن من الزمن ونيف، شعب يعي جيدا معنى كلمة وطن، بخطى واثقة وجازمة وقع الشاعرتوفيق
ومانحروفه وأشعاره، تحدى الآخر الغاصب، بلغة البوح الصريح أرسل قصائده مدوية في أرجاء
متاهات هذا الوطن؟ الوطن الكبير، وطن تكالبت عليه الشرور من كل حدب وصوب، لإفراغه من
محتواه، (شعب) وقد بات الوطن متاهة لشعب تائه، يسعى لاستلاب ما ليس لع، وتنمية مداخل متاهات،
أقبرته بعد زمن. علة المرء قلبه، أذا أصيب بعجز ملغم، يجعله يعي ويدرك ما لا يقول،
ويقول ما لا يعي؟ ذؤابات قليلة من أخرى كثيرة، تتخبط في تيه الوجود، راسمة زوبعة همجية تقاوم
طوفانا لا يهدأ أن يستمر في اقتلاع كل ما يصادفه أمامه.


فلسْطيْن
حْرُوفْ شَعْري فلسطين حَبَة حَبَة
والشّعر وَحْيَه زَادْني هَذا العَامْ
كْلاَمي عَلى فلسْطين مَا هُو كذْبَة وَإذَا كُنت نَاسي والله ما نَتْلاَم
مَرْسى النّبي كَانَت هَيّ الكَعْبَة، هَيّ العَزة والشّرَفْ زَينة لَرْصَام
حُكَام الذُل لَبسُوا لْحَافْ الحَجْبَة فَي ظْهَر فلسْطين رَشْقُوا لَسْهَام
… العَاهْرة سَطْحَت ذيك العَقْبَة والأقْصَى كَان يرفرف فيه لَعْلام
سَيفك يا صَلاح ما بقَاتْلو رَهْبة، وتْهَرويل لَعْرب أجْنَاوه أوْهَام
أعْوام الذُل جَمْلتهم في رَحْبة والرّياح العَاتية جَابت لغْيَام…


هذا الصلف الكبير أو التيه، لا حادي له سوى الوطن الخراب اليباب، رسمه الشاعر توفيق ومان  في
وقفات رجزية اختارت السكون حينا والانفجار حينا آخر، كانت بركانا في مفازة تساوى فيها الكبير

والصغير، الرفيع والوضيع، عندما يتحول الوطن إلى متاهة، فإن سادته يتعللون بالاغتراب والهجران،
خلف ستار الجبن والذل، ضنا منهم وجود مخرج، لكن للأسف لا مخرج لهم عندما تلتقي الهضبة
بالمنحدر، سوى الخنوع والجمود حتى الموت، تحت أنقاض التخميس والتسديس وعقد التمائم والعزائم؟
نجوى حملت الشاعر توفيق ومان  على إتيان الإحساس بالقلق والبحث عن استراحة محارب، حيث
رقص على أبعاد لوحة تشكيلية لبيكاسو، ولوحة تاريخية لخيبر؟ دون أن ينسى مشهد الأنثى المغرية… و
لك أن تتخيل إذا اجتمعت هذه المفارقات، ما الذي سيحل بالوطن؟ فرحا وكبرا يقفزون ويتراقصون
بشرب الكأس المعتقة على جثث الشهداء، وإعلان المدد من المُنْظَرين، ومسخ تاريخ ضارب في عمق
الوطن بحجة هذا ما أراده الرب؟ وأي رب يفعل ذلك؟ وهو المنادي الله محبة


أُسْطُورَة دَوْلَة مَعْجُونَة بْريق الرّاعي
مَحْكُوكَة بصْفًايح الزّنْبيل
عَبرائيل من لَوْحَة خَيْبَر لبيكَاسُو
ونهُود المُومسْ
كَاسْ مْعَتّق مَرشُوشْ عَلى فْرَاشْ مَسْقي بدَم الدّرَه
بدَم المَرأة ودْمُوع العَجَائز
وَمسْح تَاريْخ رمَاح خَالد وَشَرحبْيل


ألم البوح لا زال ينزف رجزاً من نبض الشاعر  توفيق ومان  تحت سماء مكبلة وأرض مغتصبة، في
عالم لا إنسانية، ولا سلام فيه، وهو ما جعل اليوم كالأمس والغد… بصيغة مكررة ومؤكدة على مشاهد
التيه في الوطن يظهر الشاعر شيئا من الشعرية المتسكعة على متن الحروف، شعرية يقدم فيها مشهديةً
لمسرحية خذل لشجعان الغاب، الصقر والنمر وقائدهما السيف ( البطل) ليجدوا أنفسهم يواجهون قوتهم
في ضعفهم، وهشاشتهم في صلابتهم، بصيغة التكرار( ومثل،،،) يؤكد" توفيق ومان" على ما حل
بالوطن وساكنيه، ولم يقف عند هؤلاء بل تعداهم إلى ما ينخر جسد الأمة، ذلك السوس المنتن، وبصرخة
استغاثة قال: وين العرب وين؟ شعور مقيت أن تقف على حقيقة أنك أصبحت بلا وطن، والوطن أصبح
بلا شعب كلاهما اختفى، لا وجود لهما سوى في شعر  وفيق ومان  إذ يقول:


مَثْل صَقْر عَالي بمْضَاه مْوجّدْ
وَمثْل نْمَر غَابي بنْيَابُو مْشَدْدْ
وَمثْل سَيفْ جارْي لعْدُوتَك تُقْصدْ
هذا وَصْف إنسَان لعْرُوبْتًهْ يْمَجدْ
عَزة وكَرامَة ونَيف، وأصْل النّبي يْأَكدْ
الكْتَاب الغَالي عَرْبي ولجْنَاس فيه تْمَجدْ

الأرْضْ والعَرضْ والبَيتْ لقْوام كُلهَا تُقْصدْ
سْلاَلة الخَيل والنّخْلة قَالوا فيها نَحْسدْ…
دَخلت سُوسَة الرّاية وَتْفَرعْ كُلْ مْكَانْ مْوَحَدْ
وَينْ العربْ وَينْ؟
كَلمة رْجَالهَا صْبحت تْعددْ
التَركة كُتلة نَار والظّلم فيهَا تْبَددْ
… مَا بْقَات قُوة ولاَ جَاه ولا زينْ جْواب مْرددْ…
ما نْقُولْ تَلفوا الرّيَاتْ يَا عْربْ، لكن كْلامهُم يْكون مْوَحدْ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى