لافتات انتخابية قديمة
✍️سعيد الصالحي:
في الجمهورية الرومانية القديمة، سار فلاح بسيط على الطريق المرصوف الذي يصل قريته الوادعة البسيطة بالعاصمة، في ذلك الوقت كانت كل تلك الطرق بالفعل تؤدي إلى روما، لم يكن الفلاح أو الحمار بحاجة إلى شواخص ولافتات للوصول إلى وجهتهما، لهذا كان الفلاح يقطع الطريق مستغربا من عدد اللوحات واللافتات التي كانت تملأ الأعمدة الخشبية والحجرية، وحتى تماثيل يانوس وباخوس قد نالت نصيبها وحظها من بركات فورتونا وغطتها بعض اللافتات القماشية، وكان الفلاح يقول في نفسه هل تشعبت الطرق نحو الهدف وأصبحنا بحاجة إلى هذا الكم من النصح والارشاد؟ أم أن الوعود هي من ستحملنا إلى روما بدلا من الطرق الواضحة والمسارات السليمة؟ وسط فوضى اللافتات وتيه الأجوبة كان الفلاح يجر حماره الرمادي المطيع الذي انهكته صناديق النبيذ التي يحملها لتوصيلها إلى إحدى الحانات التي اعتادت أن تشتري نبيذه، جد الفلاح السير نحو العاصمة دون الحاجة لرفع رأسه نحو اللافتات، فالحمار يحفظ الطريق والفلاح يسير مطأطأ الرأس الذي أثقلته الهموم، فخفض الرأس علاج روماني قديم ومجرب لبعض آلام الرأس .
وأثناء مرورهما في أحد الباحات التي كانت ترفدها الشوارع بالعربات والمارة والدواب، تجمهر ثلة من الناس للاستماع لأحد الخطباء، وكان الخطيب يرتدي ملابسا لا تشبه ملابس من يخاطبهم، وكانت رائحته تختلف عن روائحهم التي يختلط فيها عرق الكد ورائحة الخوف من المستقبل، كان الخطيب يتحدث ويعد بحلول لمشاكل لم يفقهها ولم يصادفها صاحب الحمار وكثير من المستمعين، وكان الخطيب بين الحين والآخر يرتشف بعض الماء ليطلق العنان للسانه أو بعض النبيذ ليستجمع افكاره،ثم يعود للحديث عن رؤاه وعن المعارك التي خاضها ضد البرابرة وعن النياشين التي حازها، والناس في روما القديمة كان يطربها الحديث عن الحروب، وكان المستمعون يكتفون بتأمل الخطيب وامعان النظر في فريقه الذي يقف خلفه ليخدمه ويحميه، واصل الفلاح البسيط جر حماره الذي توقف عن المسير بالقرب من تجمهر صغير وفي لحظة صمت الخطيب المفوه وسكينة الجماهير المتأملة،صاح صاحب الحمار على حماره ليستحثه على المسير قائلا : “حا، تابع أيها الحمار اللعين، لماذا توقفت؟” نظر الجميع نحو المتحدث الذي بدوره نظر نحو صاحب الحمار وعاد ليكمل خطابه .
وصل الفلاح نحو المدينة قبيل غروب الشمس وكانت اللوحات القماشية في كل مكان وعلى كل الجدران، حتى باب الحانة كان مستترا وراء أحد اللافتات، مما أجبر الفلاح البسيط على البحث عن الحانة وسؤال الناس عن موقع الحانة التي جرفتها سيول اللوحات واللافتات، أفرغ الفلاح حمولته وقبض بعض قطع الفضة واشترى بعض الحاجيات وقفل عائدا إلى قريته .
في طريق العودة كان الحمار يشعر بالخفة والسعادة لانه يعود إلى حظيرته بدون أحمال فكان يستغل الطرقات الفارغة للركض والنهيق والفلاح يجري خلفه متعبا من حمله للقطع النقدية الفضية وعند آخر الباحات قبل الطريق الريفي كان هناك تجمعا حول مرشح آخر، وكان الحمار يركض نحوهم بسرعة، فصاح الفلاح: ‘هيش .. هيش” فسكت المرشح عن الحديث ولم يتوقف الحمار وواصل الركض نحو حظيرته التي ستجمعه بمن يستمعون إليه ويستحقون صوته المتعب.