رئيس جامعة محمد بن زايد: مهمَّة الإفتاء من المهامِّ التي لا تنقطعُ حاجةُ المجتمعات المسلِمَة إليها

 

سلمى حسن القاهرة 

قال الدكتور خليفة الظاهري، رئيس جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، إن “الفتوى والبناءُ الأخلاقيُّ في عالَمٍ مُتسارِعٍ”، موضوعٌ ذو أهمية كبرى يفتح باب النقاش بين المتخصّصينَ في معارف الشّرائع والأديان، وعلوم الكونِ والإنسانِ، في هذه المرحلةِ التّاريخيّةِ الرّاهنةِ، التي استجدَّ فيها من الحوادثِ ما لم يَسبِق له مثيلٌ فيما مرّت به المجتمعاتُ الإنسانيّةُ من مراحلِ تاريخها الطّويل.

وأضاف خلال كلمته في المؤتمر العالمي للإفتاء، إنّ مهمّة الإفتاء من المهامّ التي لا تنقطعُ حاجةُ المجتمعات المسلِمَة إليها، فهي اجتهاد علمي وصناعة منطقية لبيان حكمة الشريعة، وغاية الشارع وَفق المقصود، هي نظر دقيق للواقع، وهي تحقيق رصين للمناط، هي إجابة عن متغيرات الناس وظروفهم وأحوالهم ومستجدات عصرهم؛ فالجمود ضلال كما يقول الإمام شهاب الدّين القرافيّ المصريُّ، رحمه الله، والجمود نزعة لتعطيل العقل والفكر في ديننا الحنيف.

وأوضح أن من صوَر الجمودِ التي ينبغي العملُ على تجاوزها، صورةَ التّغافُلِ عن أهمية النظرة الأخلاقية والقيمية في الفتوى والخطاب الديني، لا سيّمَا فيما يتعلّقُ بقضايا التّعدّديّة الدّينيّة، والدّولةِ الوطنيّة، والتّعايشِ والتّسامح، والمشتركِ الإنسانيّ، والبيئة والاستدامة، والتّقدّم العلميّ والتّكنولوجيّ، وتحدّياتِ الذّكاء الاصطناعيّ، والجينومِ البشريّ والهندسةِ الوراثيّة، وقضايا الأمن والسلام.

وإن البحثَ في هذه القضايا لا ينبغي أن يقتصرَ بداهةً على “منطق الإلحاق” تخريجًا لها على أصول المذاهبِ أو قواعدها؛ إذ ليسَت لها نظائرُ تُلحق بها أو تُخرَّجُ عليها، ولو بلغَ الفقيهُ في تكلُّف ذلك أقصى ما يمكنهُ من التّكلّف، بل ينبغي أن يوسَّعَ مَجالُ البحثِ فيها ونطاقُه، بأن يُنظَر في الأصول الشّرعيّةِ للاجتهادِ ذاتِها، من حيثُ إعادةُ نثرِ مكنوناتِها، بما يجمع بين نظريّاتٍ ثلاثٍ: “نظريّةُ الحكم الشّرعيّ”، و”نظريّة مقاصد الشّريعة”، وما يمكن تسميتُه ب: “نظريّةِ القيمِ”في الفتوى.

وتابع: الربط الواصل بين الخطابيْن: الفقهيِّ الأصوليّ، والقِيميِّ الأَخلاقيِّ، الذي يدعو إليه هذا المؤتمر العلمي الرصين هو منهج تجديدي رشيد يمد جسور الإمداد للوصل إلى منطق الاستيعاب الشرعي في أكمل صوره وأتم تجلياته.

وأشار إلى أن استحضار منظومة القيم والأخلاق والانطلاقَ منها في صياغة الفتاوى والمناهجِ التّربويّة التّعليميّةَ هوَ الطّريق الأوحدُ لمعرفةِ القِيَم التي ينبغي الاعتناءُ بتعزيزها في مقرّراتِنا الدّراسيّةِ، ومناهجِنا التّعليميّة، وهي التي ينبغي أن تتضافر جهودُ المؤسّسات الدّينيّة، والتّعليميّة التّربويّة، والأكاديميّة الجامعيّة، والإعلاميّة، في سبيل بثّها في المجتمعات.

ومن أهمّ تلك القيم قيمة المواطنة، أعلى قيمةٍ في سلّم القِيَمِ؛ إذ هي التي تحفظُ للمجتمعات المعاصرةِ وحدَتها وتماسُكَها، وأمنَ واستقرارَ أوطَانِها ، فقيمة الموطنة، تنبني بها العلاقة مع الأوطان على قيم الحب والوفاء والصدق والأمانة والتضحية والبناء. فهي رؤية دينية وطنية ترعى حق ولاة الأمر، وتذود عن حمى الوطن، وتحترم قوانينه، وتجعل مصلحته فوق أي اعتبار، وتحافظ على مكتسباته الفكرية والمادية

وكذلك قيمة الرّحمة، أكثرُ القيم حضورًا في الخطاب الشّرعيّ، وأخصُّ الصفات التي تحلّى بها الباري سبحانهُ في معاملتِه خلقَهُ تلطُّفًا بهم وتودُّدًا إليهم، لا سيّما في مقامات التّكليف والتّشريع، وهي القيمة الأسمى لفهم أسرار النص الشرعي وتفسيره وفق منظورها، وقيمة الحكمة، فهي مقصد الفلاسفة وغاية النبهاء ، وهي عنوان الوعي والعقل ، فكم هي حاجة المناهج التربوية إلى الحكمة وكم هي حاجة الفتوى إلى الوعي! بها نصل إلى رصانة الفتوى وضبط المخرجات التعليمية وخلق معرفة معتدلة.

كما أشار إلى أن قيمة السّلامِ والأخوّة الإنسانيّة، أصلُ أصولِ التّعريفِ بالذّات المسلمةِ ورؤيتِها للعالَمِ، وهي الرّؤيةُ التي ترسمها وحدةُ الأصلِ الآدميّ، ووحدةُ المعَاشِ الدّنيويّ، ووحدةُ المصير الأخرويّ ويجمعها المشترك الإنساني والتعاون على البر والتقوى.

وكذلك قيمة العلم، التي بها يُقامُ معيارُ تقويم الذّواتِ والمعاني والأفعالِ، فهي قيمةُ القِيَمِ التي تتميّزُ على أساسها قيمُ الفضيلة خيرًا وحقًّا وجمالًا، فالنصوص الدينية تدعو إلى إطلاق العقل الإنساني للاكتشاف والإبداع ، فهذه الاكتشافات هي قراءة للسنن والقوانين الكونية التي أبدعها خالق الكون عزَّ وجلَّ في هذا العالم الجميل، لذا تتسم العلاقة بين الدين والعلم بالتواصل والمصالحة التي تكسر الحواجز وتتجاوز الرفض المتبادل وتقطع من نطاق التفسيرات الضيقة والمغلوطة للنصوص الدينية، وتدعو العقلاء إلى النظر والإبداع واستكشاف مناطق الالتقاء بينهما، وتقريب الوجهات، وإذابة العوارض بالمنطق والعقل والمقاربات التوفيقية.

وفي ختام كلمته أشار إلى أن للإفتاء ومؤسّساته دورًا بالغ الأهمّيّة في تعزيز هذه القيَم وبثّها في المجتمعات المسلمة؛ لما تختصُّ به من تزويدِ هذه المجتمعات بالمفاهيم الدّينيّة والأحكام الشّرعيّة ومن هنا أهمّيّة بناء الوعي القيميّ لدى الفاعلينَ في مؤسّسات الإفتاءِ، وهو ما توجّهت إليه عنايةُ الجهةِ المنظّمةِ لهذا المُؤتمرِ المتميّز الفريدِ.

Related Articles

Back to top button