“لعبة التأملات بوصفها رواية في “تراب الماس” لـ “أحمد مراد”
✍️ د. سليم النجار :
ليس تسريد المستقبل للرواية بالظاهرة الجديدة في فكرتها العامة، فقد شُغل بها الروائيون منذ مدّة ليست بالقصيرة٠ ولكنّها أخذت تثير هواجسهم على نحو متصاعد في السنوات الأخيرة .
وراحت تشحذ أخليتهم موضوعياً وفنيا، عرباً وأجانب على حدّ سواء، ففي السنوات العشر الأخيرة صدرت عدّة روايات عربية وعالمية عمدت إلى صناعة ذاكرة للماضي، بجعله حاضرا في اللحظة الراهنة (لحظة الكتابة) أو بتسريده حدثا ماضيا تجري استعادته في تداخل زمني يذيب الفواصل ويعيد بناءها من جديد .
ومن الروايات العربية التي اشتغلت بهاجس المستقبل وعملت على (تسريده) بأكثر من مستوى رواية” تراب الماس” للروائي العربي المصري أحمد مراد .
أول ما يواجه هذا النوع من التسريد هو ما أسماه ميلان كونديرا بكسر القواعد، لأنّ الراوي يحكي ما جرى، لكنّ كلّ حدث صغير، بعد أنْ يمسي ماضيا، يفقد طابعه الملموس ويستحيل إلى صورة شبحية السرد هو ذكرى، إذن اختصار وتبسيط وتجريد.
ولعلّ السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان: ما هي الأسباب التي تحمل الروائيين على تحويل الماضي إلى نص سردي؟ وما هي آفاق التخييل التي تنطلق في أساسها على المحتمل والممكن لا على الحاصل والمنجز؟ هذا إذا ما افترضنا أنّ تسريد الماضي ينهض برمّته على الواقع المحض، وبما يحتمله من نبوءات يغذيها الواقع بأشكال عدّة، ( – الله!! ولمَا كُلّ الناس تِطلّع عيالها على الميري، مين يزرع بقه؟
– ال.. الفلاحين ياجدع!! ص18).
هذا الواقع الذي انسحب إلى أدنى مستوياته إنْ لم ينعدم تماما، الأمر الذي يجعل من التناول النقدي باعثا على الكشف عن ملامح جديدة للفن الروائي وإمكاناته التي ما انفكت تثبت على الدوام أنّها غير محدودة٠
وإلى ذلك فإنّ الشعور تجاه الزمن على نحو جذري مثلما تغيّر في واقعنا الحالي، وإنْ كانت حالة التسريد التي قام بها الروائي أحمد مراد قاربت واقعنا الحالي من خلال تسريد الماضي الذي جاء على الشكل الآتي: (في عام 1962 التحق ” حسين” بالتجنيد بعدما حصل على لسانس الآداب قسم تاريخ، لم يستطيع تحقيق حِلم أبيه بدخول الكلية الحربية لعدم وجود واسطة، بعدما تكالبت جميع طبقات المجتمع على الجيش كأمل لا يضارعه أمل ص٣٧)٠
ما دمنا نتحدث عن الماضي كما مراد من خلال توظيف التاريخ كشخصية ناطقة وشاهدة على عصر محدد، فلماذا نستدعي الذاكرة الروائية بما هي ماض حسب تعبير أرسطو؟ في الواقع، إنّ ربطاً كهذا ليس مرده ما ذهب إليه بول ريكور من أنّه “يجب علينا أنْ نمتلك إدراكاً لمعنى الماضي لو أننا أردنا لخططنا المستقبلية ألّا تتحوّل إلى مجرّد ” يوتوبيا” فارغة، كما جاء في كتاب الذاكرة والسرد، ترجمة جورج عيتاني، دار كنوز المعرفة عمّان 2016، ص65 – 66 ، وحسب، وليس فقط لأنّ الماضي يفسر المستقبل، من خلال محاولة إضفاء نظام دلالي روائي على ماضينا بواسطة إعادة تسريده وإعادة ما حدث روائياً، (فيدفن نفسه في جدول عمل مزدحِم لتلهية الحياة وتحصيل لقمة العيش عن التفكير ص69).
اشتبكت رواية “تراب الماس” بشكل أساسي مع المكان، أي الفضاء الذي دارت فيه أحداثها وتفاصليها وصراعاتها المتعدّدة، وقد تجلّى هذا بشكل واضح في العديد من الزوايا٠ من بينها الموسيقى: (شقّة “لبيتو” كانت متواضعة، تفضح ذوق عاشق للموسيقى، صُورة كبيرة “ليلى مراد” تتصدر الصالون، ص15).
اعتمدت الرواية على منطق “الثنائية”، وهو منطق يولد مفهومي الخير والموقف، ومن ثمّ خلق” الفعل ورد الفعل” الذي يدفع بالرواية في العديد من الجهات، وفي هذا الإطار تمّ خلق قطبين أساسيين تناسلت منها مواقف الروائي “أحمد مراد”، وقد انعكس القطبان في شخصية “لبيتو” وحبّه للموسيقى، إذ تمثِّل الأولى أفعال الخير والتصرّف المعقول والسلوك الإنساني، أمّا الثانية لنفس الشخصية “لبيتو” الموقف العقدي، (بجانب مَكتبة تتوسّطها لوحة مُستطيلة مَكتوب فيها “فليتمجّد ويتقدّس اسم الربّ العظيم في العالم الذي خلقه حَسب مشيئته، وليلتحق ملكه خلال أيّامكم وأثناء حياة كلّ بني إسرائيل” ص15).
هنا لا بدّ من سؤال؛ أوّلاً: هل أراد الكاتب تجاوز الجغرافيا اللاهوتية للأرض الموعودة، وهي لحظة متجاوزة، خاصّة وجود صورة ليلى مراد، والمعروف إنّها أصرّت على البقاء في مصر وطنها ولم تذهب إلى فلسطين، أي أنّها رفضت المشروع الصهيوني؟ هذا الفهم لليهود، هو إدراك يؤسِّس لفكرة أنّ الإنسان مرتبط بأرضه التي يحيا فيها واقعاً ومعاشاً وتاريخاً، بعيداً عن اليوتوبيا، خاصّة أنّ التوظيف جاء عبر صورة فنية موسيقية، أي خاطب اليوتوبيا بلغة الحياة – الموسيقى.
اعتمد الروائي احمد مراد على مقاربة ثقافية جمع من خلالها مستويين مختلفين، تعلّق الأول بمستوى المعالجة التي اعتمد فيها على تقديم المشاهد الروائية السريعة المشبعة بالأحداث، ومن جهة ثانية على إبراز المعالم الاجتماعية المصرية، ومنطلقاتها الثقافيَّة التي تأخذ المشاهد صوب احتفال طقوسي.
وكلّ هذا جاء من منطلق فنّي جمالي، أي لا تحسّ بأنّه عمل تلقيني ومباشر، بل استطاع أنْ يصوغ لغة روائية ناضجة ومعبّرة ومفهومه في الوقت نفسه، (- أنا مش عارِف خِدمة مُجتمع إيه اللي أنتي شغالة فيها!!
– عارِف البرّاد اللي بتشرب فيه شايك الصبح؟ تخيّل لو من غير فتحة تنفيس.. ينفجر.. اهه ده اللي هيحصل لو المُجتمع ما فيهوش واحدة زيّي ص٢١٧.)
تتميّز رواية “تراب الماس” بعقوباتها المغلظّة، تتشكل الحكاية معلنة عن بداية الخطوط الدراميَّة للصراع بين الخوف والرجاء والتقية من جهة أخرى، وبين حيرة الشخصيات الروائية إزاء ظهور آرائها في النص الروائي، (كان السُّؤال مُباغتًا كضربة سَوط سوداني على وَجهه ص356)، التي شكّلت جزءاً من الثقافة والمزاج العام للشعب، بل قامت على هواش الحياة اليومية للمصريين، التي عناصرها: (الحكواتي، الرواة، روّاد الحارات الشعبية، جمهور الحكايات)، وجلّها فئات متضررة من التقلبات السياسية التي حصلت في مصر منذ الخمسينات من القرن الماضي.
نجد أنّ نص “تراب الماس” على الرغم من حرصه على اجتراح رواية مغايرة داخل الرواية نفسها، في المخيال الشعبي حول حكايا الرواية المغايرة التي بدت تظهر على شكل “ألف ليلة وليلة”، إلّا إنّه الروائي “أحمد مراد” استطاع بصفته روائياً أن يستعيد البانوراما الاجتماعيَّة لمشاهد وصور “ألف ليلة وليلة” كما هي في السرد التاريخي مستفيدًا من هذه التقنية التي جاءت على الشكل التالي، (جلس “طه” ليلته في السرير، يضمّ إلى صدره قدمين وجرج جديد إلى جروحه التي لا تنوي الاندمال، ينتزعه الألَم من غياهِب الحِلم كطرقات مِعول تهشّم جفنيه لتحليها ترابًا ص370). وشملت تلك المشاهد البانوراميَّة: الحارات، سبل كسب العيش، المقاهي الخ.. مع إضافة حالة التجريد التي تجعل للنص عابراً للزمان، وقادراً على التكيّف مع المعطيات الراهنة في الوقت نفسه، (هزّ رأسه وابتسم قبل أنْ يضمّ أناملها بكفّه ويرجعا للمرقص لينصهرا بين الناس… ص446).
قدّمت رواية “تراب الماس” للروائي “أحمد مراد” مفهوم الحريَّة يتجاوز الذات إلى الآخر، فهي حالة إنسانيَّة كونيَّة تتجاوز الذات إلى محيطها الاجتماعي الأشمل، نظرة تفيض بالحيَّوية. وهو شأن الدراما الروائية أنّى عالجت قضيَّة إنسانيَّة إلّا فيها سرٌّ من أسرار الفكر الدرامي، فالرواية كانت وما زالت نافذة للوعي الدرامي والاستنارة.