الأفروسنتريك.. إنهم يسرقون التاريخ

عبد الرحيم كمال✍️ يكتب “الآن”  الأفروسنتريك.. إنهم يسرقون التاريخ

عبدالرحيم كمال

(موليفى كيتى أسانتى)، يبدو الاسم إفريقيًا جدًا ولكن لا تتعجل، فصاحب هذا الاسم كان اسمه (آرثر لى سميث)، نعم اسم إنجليزى خالص لكنه غيره إلى ذلك الاسم الإفريقى ليبدأ مشوارًا طويلًا فى الترسيخ لهوية إفريقية قديمة، ويبدو أنه مُخلص جدًا فى رحلته وهدفها، الذى يبدو مُقدسًا من وجهة نظره، وهو إعادة الاعتبار لكل ما هو إفريقى ورده لأصله حتى لو تطلب الأمر نسب أشياء غير إفريقية إلى الأفارقة بحجة اللون وفروة الشعر، نعم فكلمة (أفرو) تعنى فروة الرأس أو لنقل تلك التسريحة الإفريقية التى ميزت شباب وكهول أفراد القبائل، حتى صارت على رأس المشاهير، فظهر بها (بوب مارلى) صاحب الشهرة الواسعة فى وقته بفروة مكورة ذات ضفائر متعددة وكذلك (مايكل جاكسون) فى فترة من فترات نجوميته، مُعلنين انتماءهم للجذور الإفريقية -قبل أن يسعى (جاكسون) لتغيير لون جلده للأبيض – نعود للدكتور (موليفى كيتى أسانتى) والذى بدّل اسمه الإنجليزى باسم افريقى فى محاولة لتسويد وتصحيح حياته، وتسويد هنا ليست سخرية بالطبع فهو يرى أن الأصل الأسود هو الأجدر والأقدم والأعلى قيمة ، لم يبدل الرجل اسمه فى البداية لكنه ظل (آرثر لى سميث) حتى الثلاثين من عمره.

لقد نشأ مُنعزلًا مع بنى جلدته يعانى الاضطهاد والعنصرية المقيتة وحتى سن السابعة عشرة من عمره كان فى محيط معزول يدرس ويعمل فى حقول القطن والتبغ، عاش حياة الطفولة وشرخ الشباب فى فقر مدقع، ويذكر هو ذلك ويقول: كنت أذهب إلى مدرستى بحذاء بال وبطن خاوِ. وكان والده يعمل فى السكة الحديد وأُصيب فى ظهره وحُرم من العمل فزادت الأسرة فقرًا، وظل هو فى تفوق دراسى واضح ينتقل من مدارس مسيحية خاصة تقبل بذوى البشرة السوداء وهكذا، حتى حصل على درجة البكالوريوس فى الإتصال سنة 1964 ومن ثم الماجستير سنة 1965 ونال الدكتوراه سنة 1968 من جامعة كاليفورنيا، واجتهد فى دراسته حتى صار أستاذًا فى الجامعة ومؤلفا وباحثا ومدرسًا فى جامعة (تمبل) وعضو صالة الشرف للأدباء السود، وصدر له ستة وستون كتابا وأسس مجلة الأستديوهات السوداء، وهو يبلغ من العمر الآن واحدا وثمانين عاما وله ابن يعمل مخرجًا سينمائيًا يُدعى (ام كيه أسانتى). رحلة طويلة إذن حتى استطاع أن يؤسس لفكرة المركزية الإفريقية ويرسخ مفهومها وينظر لها، يقول عن نفسه: نشأت فى مجتمع زراعى فقير بمدينة (فالدوستا) وكان السود هم الأكثر فقرًا. لكن السنة الأهم والتى غيرت كل شىء فى حياة (موليفى كيتى أسانتى) كانت هى سنة 1972 وهى السنة التى زار فيها إفريقيا موطن أجداده القديم لأول مرة، زار كلا من السنغال وغانا وتنزانيا، لقد غيرت تلك الرحلة كل شىء داخله، وفى تلك السنة غير (آرثر لى سميث) اسمه ليصبح (موليفى كيتى أسانتى) لكن الذى تغير داخله لم يكن اسمه فقط بل كل شىء، ونشر سنة 1980 كتابه الأول تحت عنوان (أفروسنتريستى) رفض فيه الهيمنة الأوروبية ومركزية الثقافة الغربية، ودعا إلى ضرورة أن يعترف العالم بوجود نظريات المعرفة الإفريقية، ومن هنا ذاع صيته واكتسب شهرة واسعة وظهرت جهات تدعم أفكاره، وأسس مع آخرين عدة معاهد وجمعيات منها (عنخ) وهى جمعية معنية بالتراث النوبى ومصر القديمة ـــ لاحظ التسمية المختارة بعناية ـــ وكأن لعبة القدر العجيبة أن يعاقب أولئك الذين ظلموا أقوامًا آخرين غير الذين قاموا بظلمهم، فيعاقب الصهاينة العرب نتيجة ظلم الأوروبيين لهم فى فترة من فترات التاريخ كيهود وفق رواياتهم، ويُعاقب ذلك الأمريكى الإفريقى الأصل ورفاقه التاريخ المصرى العظيم الممتد الموثق حرفًا وكلمة ورسمًا على جدران المعابد وداخل المقابركرد فعل على عقاب الأوروبيين لهم واضطهادهم مع الأمريكان واستعبادهم ردحًا من الزمن، وكأن الذنب ينتقل من أصحابه الأساسيين إلى آخرين لمجرد أن هؤلاء الاخرين من السهل أن يُطمس تاريخهم ويُكتب بدلًا منه تاريخ آخر كيفما شاء أصحاب منظمات (الأفروسنتريستى)، وهى منظمات مدعومة من جهات دولية متعددة، حتى نستيقظ ذات صباح ونشاهد من يحكى أن أهرامات الجيزة وأبوالهول ومعابد الأقصر وفيلة والكرنك هى من صنع المواطنين الإثيوبيين والكينيين والتنزانيين والسنغال بينما أنت لا شىء، لا تاريخ ولا جغرافيا، وسيكون ذلك مدعومًا بأفلام روائية وتسجيلية وبرامج مصورة تُظهر رمسيس وإخناتون وتحتمس الثالث وأحمس وحتشبسوت ببشرة سوداء داكنة وأنف إفريقية كبيرة، وعليك أنت أن تصرخ فى الفراغ: إنهم يسرقون تاريخى. بدأ الأمر من خلال ذلك الرجل الذى يُعانى آلاما مزمنة فى ماضيه الشخصى والعرقى ليقرر أن يحول ذلك الألم إلى نظريات وقصص ومفاهيم جديدة تستطيع أن تمنح الحكاية الكاذبة الكثير من عناصر الصدق المستعار، فما هذه الحركة ؟ وكيف نمت وكبرت ؟ ومن هم صانعوها وأنصارها؟

… للحديث بقية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى