عند الغروب.

✍️ سعيد رضواني – المغرب :

حين فتح الباب، بدت له عينا كلبه حمراوين، تشعان مثل جمرتين متوهجتين. ولأنه لم يدرك أن قرص الشمس الأحمر الآخذ في الانحدار نحو الأفق الخلفي هو الذي سبب التهابهما فقد أدهشته مفاجأتان، عودة الكلب اللامتوقعة والشكل الجهنمي الذي استحال إليه. ظلت قبضة يده جامدة على مقبض الباب وعيناه مصوبتان لا إلى كلبه جوبا، بل إلى وحش خرافي يشع بريق أحمر ناري من عينيه. سوء حظ آخر طعم كراهية الرجل لكلبه “جوبا”.
ظهيرة أمس،
بخر حدث لا متوقع حب الرجل لكلبه، ولم يعد بمقدور أي شيء إحياء تلك المحبة، لا بياض “جوبا” الناصع ولا أصالته النادرة، ولا ليالي القنص التي قضاياها معا.
في المساء الذي سبق هذا المساء،
انطلقت سيارة رباعية الدفع من ضيعة الرجل الذي اشتهر في القرية باعتزاله الناس، وبولعه اللامحدود -وربما اللامعقول- بالقنص، وبصحبته الدائمة لكلبه السلوقي الأبلق. انطلقت السيارة تشق طريقا ملتويا متربا، وكل من رآها من أبناء القرية وهي تسير بذلك الاتجاه، ومن نافذتها الخلفية يطل رأس السلوقي، لا بد اعتقد أنها ذاهبة بعيدا في رحلة قنص جديدة، لكن، لا أحد ظن أن الوجهة التي تقصدها لم تكن قد حددت، بعد، في ذهن سائقها، فالرجل كان يفكر، فقط، في الابتعاد في المسافة القادرة على تضليل حواس الكلب. وبعد حوالي خمسين كيلومترا عبرتها السيارة في طرق متربة، أقفلت عائدة ولأول مرة بدون السلوقي الأبلق.
واليوم،
بينما كان مستغرقا في تأمل رأس خنزير بري محنط، مثبت على لوحة معلقة على جدار الغرفة، سمع صوت نحنحة، وصوت خدش مزعج ينبعث من أسفل الباب، وقبل أن يفتح الباب توقع أن يجد كلبا، أي كلب، لكنه لم يتوقع أبدا أن يكون كلبه “جوبا”… “جوبا” في اعتقاده، ابتلعته المسافات، لكن، حين فتح الباب، وجد “جوبا”… “جوبا” بلحمه ودمه وبياضه الناصع، لكن عينيه كانتا عيني حيوان آخر. وإذ رأى “جوبا” صاحبه، اقترب منه بمرح مجتازا الحد الفاصل بين نور الشمس وظلال المنزل، وفي الظل كان البريق المشع قد اختفى من عينيه، ومعه اختفى الكائن الخرافي المخيف، وحل محله “جوبا”… “جوبا” الوديع.
فكر الرجل بأن الكلب لا بد قد عاد مقتفيا رائحة خطواته السابقة التي عبرت تلك الدروب، تلك الطرق التي اجتازاها معا راجلين خلال رحلات القنص، أيام كانا يتنقلان بين أشجار الغابات، يلاحقان معا رجلا ذا شارب كث، رجلا ظل يتحول من حجلة إلى بطة إلى أرنب إلى خنزير. يلاحقان معا ذلك المسخ الذي ظلت بندقية الصيد متأهبة دائما لمحقه بالطلقات، المسخ، الذي اصطاده مرارا، وحنطه مرارا، وظل كل ليلة يتأمل رأسه المقزز المعلق على الجدار. وبينما كان يفكر هكذا تمنى لو وجد بدل “جوبا” الكلب الأخر، الكلب اللعين الذي جعله يكره كلبه. لو وجده، لأفرغ في جمجمته دون تردد إحدى الطلقات.
ظهيرة أمس،
حين كان الرجل يداعب “جوبا” كعادته، لاحظ أن عينيه أخذتا تحملقان في شيء آخر، التفت فرأى كلبا أجرب كأنما انبثق من الأرض، يقف على بعد أمتار قليلة، جامدا كان، كقطعة من صخر. انطلق “جوبا” مسرعا نحو الكلب الأجرب وأخذ كل منهما يشم الآخر. وكشريط مسرع، انقلب الشم مداعبة، والمداعبة إلى مشهد صدمه، مشهد مثله الأجرب وهو يعتلي ظهر “جوبا”. ظل شاردا يحملق فيهما، كأنه يرى ولا يرى، بينما في ذهنه أخذ شريط آخر يتراجع مسرعا إلى أن استقر على لحظة محددة، أدرك ساعتها، كما في الماضي، أنها هي من غيرت مصير حياته، ودفنت سعادته إلى الأبد، لحظة أبعدته عن هذا العالم وأغرقته في عالم آخر.
ليلة أمس،
استلقى على ظهره يتأمل كعادته رأس الخنزير البري المعلق على الجدار وذهنه مشوش، يتنقل مضطربا في عوالم عديدة، مازجا ما بين الماضي القريب والماضي البعيد. انزاحت عيناه قليلا عن رأس الخنزير، وأخذتا تتأملان إطار اللوحة الخشبي البني الذي يحيط بالرأس المحنطة. شده الوميض الذي يتلألأ على لون خشبها البني… لون الخشب البني يمتد مائلا إلى الأعلى على امتداد الدرابزين، تتأمله، بانبهار الطفولة، عينا صبي، تطقطق خطواته، التي تصعد الدرجات، على إيقاع خطوات أخرى أشد قوة، على إيقاع وقع تعزفه خطوات أقدام ضخمة مثل اليد التي تضم يد الطفل بإحكام. وبعد لفات عديدة، فاجأت عيني الطفل زخات مطرية كانت تتساقط على أرضية السطح، زخات علقت بذهن الصبي للأبد. سارت الأقدام الأربع باتجاه غرفة سطحية، وفي الداخل… ومن الداخل كان الطفل يسمع صوت الماء وهو ينساب رقراقا باتجاه بالوعة السطح… بالوعة خصة الحديقة تمتص ضغط المياه، وفي الأعلى تتناثر ذرات ماء المرشة… تتناثر ثم تتساقط على زغب سلوقي أبيض احتمی بنداوتها من لفحات الجو القائظ… من لفحات الجو القائظ احتمى الرجل بظلال الأشجار، ومن هناك أخذ يتأمل بياض كلبه المحبب… من هناك أخذ يتأمل بياضا مقززا لرجل ذي شارب كث، عار بالكامل، يمشي كحيوان على أربعة أطراف، يقترب بحذر من رجل آخر، هو أيضا عار بالكامل، هو أيضا يبادله الاقتراب… وكلما اقترب من السطح كلب أجرب يصعد الدرجات على رجلين مثل البشر، كلما ضمت ساقه اليمنى، مثل يد، ساق جرو صغير هو الآخر يصعد منتصبا كالبشر، بينما عيناه تتأملان باندهاش الجراء الصغيرة لون خشب الدرابزين البني… لون إطار اللوحة البني يتلألأ داخل عينيه… الإطار البني يحيط برأس محنطة لرجل ذي شارب كث… رأس الرجل ذي الشارب الكث تتلاشى… ومن جديد تبرز، داخل ذهنه وداخل الإطار، رأس الخنزير المحنطة.
فكر وهو مستلق على ظهره يتأمل، كعادته، رأس الخنزير البري المحنطة المعلقة على الجدار، أن الرصاصة التي ظل يحلم بأن تستقر، ذات يوم، في جمجمة الرجل ذي الشارب الكث، استقرت، على نحو غير منتظر، في مؤخرة كلبه “جوبا”. حاول أن يطرد هذه الفكرة من ذهنه، وأن يتقبل ما وقع لكلبه على أنه أمر عادي يقع للحيوانات وللناس كذلك، لكنه عاد وفكر: “ليركب نصف رجال العالم مؤخرات النصف الآخر، ونصف كلاب الأرض النصف الآخر، أما جوبا فلا، جوبا ليس مجرد كلب عادي، جوبا جزء من نفسي، من شخصي، من حياتي… جوبا هو الكائن الذي أختزل فيه جميع كلاب العالم، وجميع كائنات الأرض بما فيها البشر”.
والآن،
لون مقبض البندقية البني يتلألأ في عينه التي تحاول موازنة فوهة ماسورة البندقية على جمجمة “جوبا”. سبابته متأهبة للضغط على الزناد، وفي ذهنه وعلى جسد السلوقي تتراقص صورة الرجل ذي الشارب الكث الذي قتله مرارا في أجساد حيوانات عديدة.
ارتعاد اليد يعيق فوهة الماسورة على الاستقرار بين عيني “جوبا”، ولكي يثبتها اقترب أكثر… تماسك أكثر… ثم دفع بكامل البندقية مطبقا ماسورتها على الجمجمة… وقبل أن يضغط بسبابته على الزناد، قفز “جوبا” أمام عيني خياله وأخذ يسابق الريح… يطارد الأرانب… يلاحق الحمائم في السماء… يركض بين سنابل القمح… يجري، يسبح، يحاول تسلق أدراج السماء.
ظل “جوبا” هادئا لم يخف. وكما لم تزعجه قبل قليل برودة ماسورة البندقية، لم يطمئنه، الآن، دفء مقبضها الخشبي الذي يلامس بارتعاش خفيف وسريع، مرة بعد أخرى، أرنبة أنفه.
ظل هادئا، يحملق في عيني صاحبه اللتين كانتا تحملقان في شيء آخر، شيء بعيد… في مكان بعيد… في زمن بعيد…
أخذ “جوبا” يتحول أمام عينيه من كلب إلى أرنب، إلى حجلة، إلى كلب أجرب، إلى خنزير بري، إلى رجل ذي شارب كث، وإذ رأى الصورة البشعة لهذا الأخير ضغط بإبهامه على الزناد.
لم ينتفض “جوبا” فقد كان متعودا على سماع صوت الرصاص، لكن أذهلته رؤية جسد صاحبه وهو يتهاوى على الأرض مضرجا بالدماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى