*ما كل هذا الكرم يا الله؟!*

✍️ صالح الريمي :

العطاء الوجداني مع الناس يمثل دفعة عاطفية للذات، والعطاء الاجتماعي في أعمال الخير يطفئ اللهيب النابع عن الضغوط الحياتية والصعوبات المادية خاصة في عصرنا الحاضر..
ولكي تسعد! اصنع السعادة، فنفعُ العطاء يعود عليك، وإفعل بلا مقابل، وإمنح عطاياك لمجهول، وأدعُ لشخصٍ منكوب، وأسعد غيرك، وأصدر قرارًا بالعفو الشامل عن كل شخص أحزنك أو أساء إليك في الماضي والحاضر، وإن غابت عنك البسمة أرسمها على وجوه الآخرين، فنفعُ العطاء يعود عليك أنت أولًا.

أرسل لي أحد المتابعين قصة جميلة تذكرني بمقولتين: “كما تدين تدان” و “من يفعل خير يلقى خير”، يقول راوي القصة: كنت في محطة القطار في مدينة ميونخ الألمانية والوقت متأخر ليلًا والطقس بارد جدًا، قطعت تذكرة للسفر إلى مدينة “فريدريشهافن” حيث يُقام معرض لآلات البلاستيك، وإذا بالموظف في الشباك الثاني لقطع التذاكر يسألني إن كنت أعرف لغة المسافر الذي يتحدث معه لأشرح له كيفية السفر إلى المكان المطلوب..
المسافر كان من دولة خليجية يريد أن يتابع سفره إلى مدينة فرانكفورت للعلاج – على ما أذكر – ولم يكن في هذا الوقت المتأخر قطار ينتقل مباشرة إلى فرانكفورت، بل عليه أن ُيبدّل القطار مرتين في محطتين مختلفتين ليصل إلى هدفه وكانت أول مرة يسافر فيها إلى الغرب ولا يتكلم أي لغة أجنبية.

حاولت أن أشرح له سريعًا كيفية الوصول ولكن تعابير وجهه لم تكن تدل على أنه استوعب ذلك فأحضرت ورقة وكتبت له باللغة العربية اسم البلدة الأولى ووقت الوصول ثم انه يجب عليه النزول سريعًا إلى المحطة المطلوبة وأخذ القطار المطلوب ثم مرة ثانية اسم البلدة التالية ووقت الوصول ثم النزول سريعًا وأخذ القطار الثاني إلى الوجهة المطلوبة..
وكتبت الترجمة بالألمانية تحت كل جملة ليُعلم معناها ويُرشد من قبل من يقرأها إلى الوجهة المطلوبة ثم رافقته إلى المحطة المطلوبة وصعدنا القطار ثم تابعته إلى أن جلس وتكلمت إلى جليس ألماني بقربه ووعدني أن يرشده للوجهة الأولى.

لوّحت له مودعًا وتمنيت له سلامة الوصول، وانتبهت لنفسي ونظرت إلى تذكرتي فوجدت نفسي على رصيف غير الذي يجب أن أكون عليه لأركب قطاري، وقد مضى خمس دقائق على توقيت القطار المطلوب، فركضت مسرعًا إلى الرصيف فإذا بالقطار كأنه ينتظرني وهو على أهبة السير وقد كُتب على اللوحة ( تأخير خمس دقائق)، صعدت لاهثًا ومشى القطار، وحمدت الله..
وصلت إلى وجهتي منتصف الليل، وأخذتُ سيارة أجرة فسار بي قليلًا للخروج من محطة القطار، ثم سألني عن وجهتي؟ فأجبته: إلى أي فندق في المدينة، فتوقف فجأة وقال: أعتذر منك، الفنادق كلها مشغولة منذ الساعة العاشرة إنه وقت معرض ولا مكان شاغر لك فتفضل بالنزول! قلت: إلى أين أذهب في هذه الساعة وفي هذا الطقس البارد؟

فرقّ لحالي ثم اتصل عبر جهازه اللاسلكي بمكتب سيارات الأجرة الذي يوجهه وقال للموظفة التي ردت عليه: معي راكب يريد فندقًا، فأجابت بعصبية: ألم أقل لك مرارًا بانه لا يوجد شواغر في الفنادق كلها! وسمعنا في هذه الثانية صوت رنين الهاتف الداخلي بمكتبها فأجابت عليه، ثم قالت للسائق انطلق إلى فندق الدولاب الذهبي، فإن نزيلًا اعتذر عن الحضور وحجزتُ للراكب الذي معك المكان: أعطني اسمه..
وإذا بالسائق يقول متعجبًا: (انغلوبليش انغلوبليش) بمعنى لا أصدق! لا أصدق! فقد كان مبهوتًا بهذا التوقيت العجيب ولا يجد له تفسيرًا، وصلت الفندق فحياني موظف الاستقبال وقد كُتب على لوحة أمامه – لا أماكن شاغرة – وقال لي: أنت محظوظ العشرات ينتظرون مكانًا” شاغرًا.

استلمت الغرفة ونظرت من شرفتها التي تطل على البحيرة ومناظرها الخلابة وأضوائها الهادئة، وسكونها المريح واستعبرت وانحدرت دمعة رقيقة من عيني وحدثت نفسي قطار بمئات الركاب يتأخر لأجل راكب؟ وغرفة مميزة في فندق مميز تُحجز في توقيت معجز في الدقة لفرد معين دون العشرات؟
أمِن أجل الوقوف على رصيف محطة لمساعدة إنسان تائه؟! ما كل هذا الكرم يا الله؟!
يا رب إني إنسان مقصر أقف على الرصيف بانتظار القطار الذي يأخذني إليك وإلى جنتك فأعني على فعل الخير وتقديمه للغير ودلالة الناس عليه.

*ترويقة:*
قمة المتعة أن تعطي وقت الحاجة، يقول جورج برنارد شو: (المتعة الحقيقيّة في الحياة تتأتّى بأن تصهر قوّتك الذّاتيّة في خدمة الآخرين بدلًا من أن تتحوّل إلى كيان أناني يجأر بالشّكوى من أن العالم لا يكرّس نفسه لإسعادك!)، اليد المعطاءة هي وحدها القادرة على نقلك من عالمك المادّي الضّيق إلى عالم الرّوح الرّحب الواسع.

*ومضة:*
قال الشاعر:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس.
قال تعالى: (وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ)، فلا تتردد في مساعدة المحتاجين وإغاثة الملهوفين قدر استطاعتك.

*كُن مُتََفائِلاً وَابعَث البِشر فِيمَن حَولَك*

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى