“سد خانة”
قصة قصيرة
✍️وفاء عرفه :
لأول مرة منذ أن دخلت بيتها، و هى بالفستان الأبيض، تستيقظ لا تأبه بشئ، من مسئوليات الحياة اليومية، ضاربة بكل واجباتها عرض الحائط، فاض بها الكيل، من الروتين اليومى القاهر و المستبد،أصبحت تشبه الآلة المبرمجة بلا إحساس، تحتاج لأن تعلن عن ثورتها من كل ما تكتمه منذ وقت بعيد، اليوم فقط قررت أن تبحث عن ذاتها، إرتدت ملابسها و توجهت لتناول قهوتها الصباحية، خارج منزلها بعيداً لتختلى بنفسها و تستعيد روحها التائهة. إستقلت أمينة سيارتها ثم توقفت أمام أحد الأماكن الراقية، دخلت و بدقة إختارت طاولة للجلوس عليها و طلبت فنجان قهوة، الجو صحو و هادئ غير مزدحم، يبعث علي التأمل و التفكير العميق، أمينة شابة جميلة فى العقد الرابع من العمر، رقيقة الملامح و بهية الطلة، تمتاز بقوة الشخصية تعودت ألا تبوح، والكتمان شعار لها و أسلوب حياة، تتحمل المسئولية بلا كلل أو ملل، تزدان شخصيتها بالحكمة و قوة العزيمة، أما الصبر يصاحبها كالخليل.
تزوجت عزيز بعد قصة حب و إختبار كل من القلب والعقل معاً، كل شئ فى حياتها يمضى وفقاً لخطط مسبقة بإنتظام و ترتيب، مما يضفى علي الحياة سلاسة و راحة، كل شى يدنو إلى حد الكمال، و على مايرام…إلا هى… داخلها بركان تكاد فوهته أن تنفجر و تدمر ما حولها، تلك الحياة التى تبدو فى ظاهرها، على قدر كبير من المثالية للناظر لها بشكل عام، الحقيقة أن أمينة لم تعد تحتمل ما تعانيه، فكرت كثيراً و قررت مواجهة زوجها عزيز، هاتفته و هى تحتسى قهوتها ثم إستدعته للحضور فوراً، تاركاً كل شئ بيده لحاجتها للحديث معه فى أمر جلل، و لن تقبل عذراً منه لتأجيل الحوار.
شعر عزيز بنبرة صوت من زوجته لم يعتادها من قبل، بدأ القلق يساوره و إستجاب لندائها وذهب إليها مسرعاً.
هو: بإبتسامته المعهودة صباح الخير حبيبتى.
هي: صباح النور تفضل قهوتك طلبتها لك، ثم أكملت الحديث مباشرة.
قائلة: ما عدت أحتمل حياتى معك.
هو: بإندهاش شديد ماذا تقولى؟
هى: ماعدت أطيق أكون مجرد سد خانة.
هو: غير مصدق و لا مكذب ماذا تعنين بذلك؟
هي: أقصد أنك تسد فقط خانة حالتك الإجتماعية بلقب (متزوج)
هو: لاأصدق ما أسمعه منك و لكن
هى: بحزم قاطعته قائلة: من فضلك إسمعنى أولاً و بعد ذلك قل ماشئت.
هو: أومأ لها بالإيجاب لقد أدرك عزيز مدى جدية و خطورة الحديث التالى.
بدأت حديثها بقوة وإصرار دون أن تنمق الكلمات و قالت:
نحيا حياة مثالية (كما يبدو للناس) بيت هادئ جميل لا ينقصه شئ به كل وسائل الراحة، لدينا ولدان يضفيان علي حياتنا البهجة، توفر لنا كل الإحتياجات و نحظى بعيشة راقية فى سعة من المال. ماذا أريد أكثر من ذلك؟ و أى إفتراء أتحدث به؟ لو أفضيت بمكنون نفسى لأحد لأتهمنى بقلة الحمد والشكر…ويعلم الله أننى أحمده كثيراً..
ياشريكى أنت المقصود الأوحد بكل ما يثور بداخلى..
أرهقتنى المسئولية وحدى دون مشاركتك، لا أجدك عوناً لى في إتخاذ الرأى و المشورة،
دائماً لا وقت عندك للحوار عن ما يفوتك في ظل غيابك المستمر، أقوم بكل واجباتنا الإجتماعية بدونك، سؤال البعض عن غيابك دوماً أصبح يؤلمنى، إنتهت عندى كل الأعذار المقبولة عن غيابك حتى أمام نفسى، ما عُدت تعلم عنى شيئاً و لا تسألنى عن حالى معك، تكتفى بالشكل الخارجى من الإبتسامة، و قناع السعادة الزائف،ةتناسيت يا عزيز أنى إمرأة أرغب فى الحب كما أحتاج المادة، أتمنى الإحتواء كما أود المشاركة، أصبو إلى أن أكون نصفك الآخر، أحتاج أن تهتم بتفاصيلى كاملة، نسيت الورود و الشموع و همس الكلمات، و المشاعر الدافئة، المرأة يا عزيز تعشق بأذنيها، بت أعيش على ذكريات الماضى و كأنك مغادر، لا أريدك أن تغترب عنى بل إقترب و إتحد لنكتمل معاً.
الوحدة يا عزيز قاتلة و الإهمال تموت على أعتابه كل المشاعر و تدفن في مقبرة النسيان، مهما كانت قوتى فى مواجهة الأمور فإنى أعترف لك أننى ضعيفة بلا إهتمامك، محال أن أمضى حياتى شاعرة بنقصان، فالمرأة مثل الزهرة إن لم تراعيها و تسقيها تذبل وتموت.
و أنا لا أريد أن أذبل..حتى الموت..
تعديت كل الأعذار و المبررات و الفرص المتكررة، سئمت كثرة التلميح لك عن ما يخصنا، أفقدتنى متعة التواصل بك و اللقاء معك، مللت الحيرة و كثرة شكواىّ منك لقلبى و عقلى و روحى.
ربما يبدو حديثى هزلياً لكن كل هذه التفاصيل هى فى النهاية وقود الحياة للمرأة و منتهى مبتغاها لمقاومة تقلبات الأيام و قسوتها أحياناً، إننى نضجت و أحتاج إليك أكثر.
سكتت أُمينة برهة ثم إستطردت: أخبرك بكل ما يؤرقنى و يشتت نفسى ربما نستطيع الوصول لنقطة تلاقى أو يستحيل علينا الإستمرار..و صمتت…
قال عزيز: أعتذر عن ما سببته لك من معاناة دون قصد، أنا على يقين بكل ما تقومين به، لتجعلى حياتنا جميلة هادئة و توفرى لنا الراحة و الإستقرار، لكنى تصورت أنك تعلمين مدى قيمتكِ عندى دون قول، أنت تعلمين مكانتك فى قلبى، ربما لا أجيد الحديث عن ما أكنه لكِ، إن حبى لك أكثر من أى كلمات تقال، و لأنكِ كتومة دائمة الإبتسامة نادرة الشكوى و على قدر المسئولية، إعتقدت بأنك قانعة بدورك، قادرة علي ما تحملين وحدك، و تشعرين بما لا أحترف قوله.. أشعر بالخجل لأننى قصرت في أشياء سببت لك مشاعر سلبية أودت بكِ إلى هذه الثورة الناعمة، أُقر لكِ بذنبى لشعوركِ بالوحدة، لكن الحياة لا تستقيم إلا بوجودك، وصلتنى رسالتك كاملة شريكة عمرى الرائعة، أرجو أن تمنحينى فرصة لتصحيح أى شئ أذى مشاعرك الرقيقة.
إبتسمت أمينة و قالت: و إن لم تتغير و عدنا كما كنا؟
أجابها: أعدك أن لا تكونِ لى مجرد لقب فى خانة.
طلب منها أن يقضيا اليوم كله معاً خارج منزلهما على غير عادته، فى مكان ذكرياتهم القديمة..
ثم قال لها مداعباً و لكن إن نسيت شيئاً يا حبيبتى ذكرينى به، فنظرت إليه كاظمة غيظها و بإبتسامة قائلة: لا فائدة فى الحديث آه ياربى..منك يا عزيز.