رب أشعث أغبر

✍️ صالح الريمي :

في الدنيا الوجاهة والمنصب والغنى والمكانة الاجتماعية دورًا مهمًا في صناعة التأثير وهندسة الحياة وفتح الأبواب الموصدة، فعندما يُراد معرفة شخص ما فإنه يُسأل عن: عمله أو عن ماله أو عن وضعه الاجتماعي أو عن قبيلته وعشيرته أو عن جنسيته، وهذه الموازين لم يهتم بها الإسلام من قبل، ولم يولِها عناية فائقة كما هي موجودة اليوم في ميزان وحساب الناس..
أما بالمقاييس الشرعية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رُبَّ أشعثَ أغبَرَ مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسَمَ على الله لَأَبَرَّهُ). وعبارة “رب أشعث أغبر” تعبر عن شخص يبدو غير مهتم بمظهره الخارجي، فهو يظهر بمظهر متهالك وملابس متسخة ومع ذلك، فإن هذا الشخص قد يكون في الحقيقة أكثر طهارة ونقاءً في قلبه من الكثيرين الذين يبدون بمظهر أنيق ومرتب.

أما في الآخرة مظاهر الدنيا ليست معيارًا حقيقيًّا لمعرفة الأتقياء والانقياء وأولياء الله الصالحين، كما هو المعروف لدى عامة الناس، فكثيرًا ما تكون عناية الله سبحانه وتعالى والميزان هي تقوى الله عزوجل، كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾..
يقول لي أحد المدربين والدعاة إلى الله:
دُعيت مرة لحفل تكريم في إحدى الدول، وأراد المكرمون لي أن يكون التكريم في المسجد يوم الجمعة بعدما أخطب لهم الجمعة، وكان في الحضور بعض الوجهاء ونواب من البرلمان وغيرهم من علِيَّة القوم، وبعد الجمعة وقف الإمام وقال: سيكون التكريم اليوم جديدًا من نوعه، لن يُسلِّم الهدية اليوم نائب من البرلمان ولا وجيه من الوجهاء، سيسلمها رجل آخر لا نعرفه، لكن الله يعلُمه، ثم نادى وقال: فليقُم أول من دخل المسجد.

تلفَّت الناس كلهم يُمنة ويسرة ثم فوجئوا برجل مغمور من بين الناس يقوم خجلًا يمشي على استحياء نحو الإمام الذي طلب منه أن يسلمني هدية التكريم، سلَّمني الرجل هديتي ثم عاد إلى مكانه تتبعُه الأبصار والقلوب على حدٍ سواء..
هذا المشهد البسيط يختزل مشهد الآخرة بامتياز: رجل مغمور لا يعرفه أحد، ومشاهير يجلسون في الصفوف الأولى يعرفهم كل أحد، لكن لما كان الاختيار على حسب مطالب الآخرة لا الدنيا، قام المغمور وقعد المشهور، ففي ميزان الله يسبق المغمور الصالح، ويتأخر المشهور الأقل منه صلاحًا.

*ترويقة:*
يجب علينا أن نتذكر أن القيم والأخلاق هي التي تحدد حقيقة الإنسان، وليس مجرد مظهره الخارجي، فلنحاول دائمًا أن نكون مثل “رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لَأَبَرَّهُ”، بقلوب نقية وأخلاق رفيعة، ومن هؤلاء الحسن البصري لم يكن من سادة الناس وإنما كان من الموالي، فهو مولى لزيد بن ثابت الأنصاري، وأمه مولاة لأم سلمة أم المؤمنين – رضي الله عنها -، لكنه صار بعد ذلك سيد البصرة في زمانه، حتى إن الحجاج بن يوسف الثقفي لما دخل البصرة قال: من سيد البصرة؟ فقيل له: الحسن البصري، قال: كيف ذلك وهو من الموالي؟ فقيل له: إن الناس احتاجوا إلى علمه واستغنى هو عمَّا في أيدي الناس.

*ومضة:*
مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حريٌّ إن خَطَب أن يُنكح، وإن شَفَع أن يُشفع، وإن قال أن يُستمع. قال: ثم سكت. فمرّ رجل من فقراء المسلمين. فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حَريٌّ إن خطب أن لا يُنكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يستمع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا.

*كُن مُتََفائِلاً وَابعَث البِشر فِيمَن حَولَك*

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى