“الحاج كمال المقدونى”

قصة قصيرة

✍️ وفاء عرفة :

قررت راجية قضاء إجازتها السنوية، في جولة سياحية حول بعض العواصم الأوربية، أولها لندن لزيارة صديقتها، توجهت إلى منزل مشيرة فى لقاء لهما بعد غياب دام أكثر من عامين، إلتقيتا بالعناق و القبلات الحارة و السعادة الغامرة، و الفرحة العارمة من شدة الإشتياق، لأيام الصبا و الحديث عن الذكريات، و السؤال عن الأحوال و الأهل، صوت ضحكاتهن يملأ المكان حولهما، كأنهن فى حلم جميل حيث كان اللقاء مفاجئ، كلماتهن تأتى دون ترتيب و الحكايات لا تكتمل و الحديث متوالى بلا توقف، و عند تناولهما القهوة عرضت مشيرة على رفيقتها أن تنضم إليها، للذهاب معها لزيارة شخص تتمنى لو وافقت و لديها متسع الوقت ، لتتعرف عليه مثلها، لأنها على ميعاد أسبوعى معه و لاتود أن ينتظرها دون جدوى، وافقت راجية على الفور لثقتها فى إختيارات صديقتها و لمزيد من قضاء الوقت معها.
فى إحدى ضواحى لندن و أمام منزل محاط بحديقة منسقة الزرع و الزهور المختلفة، و مروراً بممر طويل يتوسط الحديقة، حتى وصلتا لباب السكن، الذى فتح لإستقبالهما بعبارات الترحيب و إنتظار أهل البيت للزيارة المحببة لديهم دائماً.
يجلس الحاج كمال على مقعد متحرك، ألقى التحية على مشيرة و دعاهما للجلوس، و بإبتسامة هادئة مريحة، إخترقت وجدان راجية، كأنه يقول لها ما أجمل وجودك هنا.
رجل تعدى السبعين من عمره، تكسو ملامح وجه الحكمة و الورع و الرضا رغم مرضه، ذو لحية قصيرة مشذبة و بشرة بيضاء يخالطها الإحمرار،عريض المنكبين متوسط البنية، يرتدى سروالاً أسود يعتليه تيشرت قطنى بنفس اللون، على رأسه طاقية بيضاء تغطى القليل من شعره، و عيناه داكنتان بلون الليل، يمسك بيده مسبحة، على يمينه طاولة فوقها جهاز لتشغيل السيديهات الموضوعة بنظام، كلها للقرآن الكريم للمقرئ عبد الباسط عبد الصمد، يغلب على المنزل الهدوء و السكينة، و رائحة تمتزج بين العود و العنبر، الجدران بلونها الأبيض و الزرع الأخضر في أرجاء المنزل يزيده إتساعا و أناقة، أما الأثاث بدرجات اللون البنى تُضفى على المنزل الطابع الشرقى، فى تناسق و بساطة تبعث على الراحة النفسية، بعد ترحيب الرجل و إعرابه عن سعادته البالغة بالزيارة.
بدأ الجميع يتجاذبوا أطراف الحديث، لكن راجية سيطر عليها الفضول لتعرف قصته، إنتهزت الفرصة و طلبت منه بفصاحتها المعهودة مباشرة، ثم قالت له: كيف إستقر بك الحال إلى هنا إن أذنت لى أود أن أُنصت إلى قصتك، جاوبها قائلاً : على الرحب و السعة، أخذ نفس عميق و صمت برهة و كأنه يقلب فى صفحات كتاب حياته و بنظرة ثاقبة إلى عينيها، بدأ يروى حكايته قائلاً : كنت شاباً يعيش ببلده الأم مقدونيا متزوج و لدى خمسة أطفال، عندما فكرت بالمجئ إلى هنا لم يكن القرار سهلاً، و لرغبتى فى تحسين مستوى معيشتى لأجل أولادى، إتخذت القرار معتمداً على الله سبحانه و تعالى، إرتحلت إلى هنا و لم تكن البداية سهلة، لكن بالصبر و العزم و مساندة زوجتى و خلق أبنائى تخطيت الكثير، حرصت على تعليم أولادى و تربيتهم علي ركائز الإسلام و حب الله و طاعته، رغم أنى لا أفهم الكثير من القرآن بلغته العربية إلا أنى كنت أنتهز الفرصة لأفهم و أشرح لأولادى ما فهمته.
إلتحقت بوظيفة في إحدى شركات الإنشاء المعمارى، و عشت هنا مواطن صالح، أحترم قانون البلد و أعرف حقوقى و واجباتى، حصلت على الجنسية، تعلمت حرية الرأى و إحترام الإختلاف، فى بلد يتسع للجميع من كل الأجناس و الأديان، الحياة هنا أساسها إحترام الآخر بعيداً عن أى شئ غير أنه فقط إنسان.
قاطعته راجية قائلة: صدقت المجتمعات المتحضرة تقام على القوانين و الأسس و المبادئ الواضحة، و على الجميع الإلتزام بكل ذلك. ثم قالت :زاد فضلك أكمل سيدى.
إستطرد بقوله تعلمت لغتهم و كونت صداقات، من مختلف البشر فى عملى، و مع جيرانى، كلها مبنية على التفاهم و الإحترام نتشارك المناسبات المختلفة، و نساعد بعضنا بقدر المستطاع، نستفيد من ثقافة بعضنا البعض، و ذلك يضيف إلينا و يقربنا لنتعارف أكثر، و تأكدت بعد طول رحلتى بأننا فقط من ندفع ثمن أحلامنا و تحقيقها و نحن أيضا السبب في التلاعب بها و ليس الأخرين، إلتقطت راجية خيط الحديث و سألته: ما رأيك بما يدور الآن فى العالم من حولنا؟
أجاب بكياسة و حنكة قائلاً: شيخ مثلى فى هذا العمر و له من الخبرات الكثير، أستطيع أن أهديكِ خلاصة رأيى المتواضع، و بنظرة حزن و دمعة أبت أن تكتمل قال:
إن كل هذه الحروب بأسلحتها الجديدة التى تعتمد علي تفتيت المجتمعات، و تحطيم معنويات البشر و محاولة الإتجار بإسم الأديان، و كل الصراعات الإنسانية ما هى إلا صناعة البشر أنفسهم، و التكالب على مطامع الدنيا من سلطة و مال لا يجدى و لا ينفع، لقد خلقنا الله لإعمار الأرض و إعتناق الإنسانية و عبادة الله، و ليس لإفساد الأرض و إهانة الإنسان، النهاية محتومة و لن نأخذ معنا إلا العمل الصالح.
و ساد الهدوء بعد تلك الكلمات.. أدركت مشيرة أن الوقت حان لإنهاء الزيارة، قامت مودعة مضيفها بقولها له سعِدنا بحديثك جداً ممازحة إياه يا حجى كمال كما تداعبه بهذا النداء دوماً. ثم جاء دور راجية فستأذنته بالسماح لها أن تتواصل معه للإطمئنان عليه، سعد بذلك و رحب به كثيراً و أهداها مسبحة فيروزية اللون موجهاً إليها الحديث بقوله تعودت إهداء أحبائى، للذكرى الطيبة و أخترت لك مسبحة بلون عينيكِ يا راجية و من الآن أنت إبنتى و لك مثل مكانة صديقتك الغالية عندى.
أستودعهما الله ثم قال فى أمان الله و رعايته.
غادرتا الصديقتان و هما فى غاية السلام و السكينة و أقسمت راجية لرفيقتها على أنه من أروع اللقاءات فى حياتها و لن تنساه أبداً.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى