من غشنا فليس منا

✍️ صالح الريمي :

الأخلاق هي صمام أمان المجتمع وتماسكه، وهي الأساس المعنوي لنهضة الأُمم، ومقياس تطورها وتقدمها ورفعة شأنها، ولا توجد نهضة بلا أخلاق، والغش التجاري ظاهرة اجتماعية خطيرة، يقوم فيها الكذب مكان الصدق، والخيانة مكان الأمانة، والهوى مقام الرشد، نظرًا لحرص صاحبها على إخفاء الحقيقة، وتزيين الباطل، ومثل هذا السلوك لا يصدر إلا من قلب غلب عليه الهوى، والانحراف عن المنهج الرباني..
قبل سنتين أشتريت سيارة مستعملة من حراج السيارات عن طريق شخص موصى بي، وكان البائع يمدح السيارة من جميع النواحي ولم يذكر أي عيب في السيارة، بل أخفى العيوب الحقيقة في السيارة، وصار يمدح سيارته ويحلف بالله أنها جيدة ويختلق أعذرًا وظروفًا لبيع السيارة، والله عزوجل يعلم السر وأخفى، وبعد كم يوم من الشراء ظهرت عيوب كثيرة لا أعلمها ولم يفصح البائع بها، وبحكم خبرة بائعي السيارات يعرفون إخفاء العيوب قبل الشراء، فلما سألت الخبراء عن هذا الأمر، نصحوني بإصلاح الاعطاب ومشي حالك.

وفي نفس سياق قصتي أذكر لكم قصة أخرى لكن القصة إيجابية، قصة قصيرة استوقفتني نشرها أحد أصدقائي على حسابه فى إحدى وسائل التواصل الاجتماعي، فلم أجد مفرًا من نقل القصة بعدما لامست واقعنا المرير، قصة حصلت لمواطن عربي في أيرلندا، وسأنقلها لكم مختصرة وبتصرف..
يقول: كنت أمرّ على محلٍّ تبيع فيه امرأة، وأشتري منها كاكاو بسعر 18 بنسًا، وصادف في أحد الأيام أن رأيتها وهي ترصّ ألواح كاكاو شبيهة بما تعودت أن أشتريه لنفس نوع الكاكاو وكاتبة عليه السعر 20 بنسًا، فسألتُها هل هناك فرق بين الصنفين؟

قالت لا.. ولكن حدثت مشكلات في نيجيريا التي نستورد منها الكاكاو أدت الى ارتفاع سعره، وكما ترى فقد وضعت على الرف الثاني السعر الجديد للكاكاو الحديث، ولهذا سابيع الدفعة الجديدة بسعر 20 بنسًا والقديم بسعر 18 بنسًا.. قلت لها إذًا لن يشتري منك أحد غير إلا بسعر 18 بنسًا حتى نفاذ الكمية، وبعدها سياخذون منك بسعر 20 بنسًا.. قالت نعم أدري، قلت لها إذًا اخلطيهم ببعض وبعيهم بنفس السعر الجديد بسعر 20 بنسًا ولن يستطع أحد التميز بينهم.. همستْ في أذني وقالت: هل أنت حرامي؟

مر المواقف عليّ من سنوات لكن مازال السؤال يتردّد في أذني عندما أرى بعض تجار المسلمين وهم يرفعون الأسعار على الدوام، هل أنت حرامي؟!
انتهت القصة ولم تنتهِ مظاهر الغش والخداع، حتى في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام سجل التاريخ لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له زيارة إلى السوق ليشتري ما يحتاجه، فاستوقفه منظر كومة من طعام وقد عرضها صاحبها للبيع، ومن النظرة الأولى أعجب النبي صلى الله عليه وسلم بالطعام فهو يبدو فائق الجودة والنضارة، لكن بعد الفحص الدقيق يظهر ما كان خافيًا، فقد أده فإذا بها مبتلة على نحو يوحي بقرب فسادها.

استدار النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرجل، وألقى إليه بنظرة لائم وأتبعها بسؤال المعاتب: ما هذا يا صاحب الطعام؟ فأطرق الرجل رأسه في خجل وقال: أصابته السماء يا رسول الله، وكأنه يريد أن يعتذر عن فعلته ولكن بما لا يعتذر به، وأن يبرر موقفه ولو بأقبح التبريرات، كل ذلك محاولة منه في تخفيف غضب النبي عليه الصلاة والسلام وعتابه..
لكنه رسول الله، ومعلم البشرية، ومتمم الأخلاق، ما كان له أن يتغاضى عن موقف كهذا، وليس الموقف موقف مجاملات أو صفح عن خطأ فردي، ولكنه أوان ترسيخ مبدأ عظيم يحفظ حقوق الناس ويصونها من العبث والتدليس، فقال عليه الصلاة والسلام: (أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غش فليس مني).

*ترويقة:*
سؤال ماذا نسمي أولئك الذين يشترون آلاف الأكياس من الدقيق بسعر رخيص، ثم يخزنونه ليبيعوه لاحقًا سعره باهظ الثمن؟ وماذا نسمي أولئك الذين يخزنون السكر واﻷرز والزيت وغير ذلك من قوت الناس، ليبيعوا ما خزنوه في أوقات الشدة والأزمات بأعلى اﻷثمان، مستغلين حاجة الناس الماسة إليه؟!

*ومضة:*
قال أحمد ديدات رحمه الله:
(نحن لسنا متخلفون عن الغرب، ولكن متخلفون عن الإسلام؛ وما تخلفنا عن العالم إلا بعد تفريطنا في ديننا).

*كُن مُتََفائِلاً وَابعَث البِشر فِيمَن حَولَك*

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى