هارون الرشيد والفالوذج بدهن الفستق
✍عبدالرحمن بن عبدالله اللعبون :
في حسن الصحبة عن عمرو بن بحر قال: اجتمع للرشيد ما لم يجتمع لأحد من جد وهزل، لم ير مثلهم سخاء وسروا، قاضيه أبو يوسف، وشاعره مروان بن أبي حفصة، كان في عصره كجرير في عصره، ونديمه عم أبيه العباس بن محمد صاحب العباسية، وحاجبه الفضل بن الربيع أتيه الناس، وأشدها تعاظما، ومغنيه إبراهيم الموصلي، واحد عصره في صناعته، وضاربه زلزل، وزامره برصوما، وزوجته أم جعفر أرغب الناس في خير، وأسرعهم إلى كل بر، وهي أسرع الناس في معروف، أدخلت الماء الحرم بعد امتناعه من ذلك، إلى أشياء من المعروف .
ولدهن الفستق حكاية، فقد قال علي بن الجعد: أخبرني يعقوب بن إبراهيم أبو يوسف القاضي قال: توفي أبي إبراهيم بن حبيب وخلفني صغيرا في حجر أمي، فأسلمتني إلى قصّار أخدمه، فكنت أدع القصّار وأمر إلى حلقة أبي حنيفة فاجلس أستمع، فكانت أمي تجيء خلفي إلى الحلقة، فتأخذ بيدي وتذهب بي إلى القصّار، وكان أبو حنيفة يعني بي لما يرى من حضوري وحرصي على التعلم، فلما كثر ذلك على أمي وطال عليها هربي، قالت لأبي حنيفة: ما لهذا الصبي فسّاد غيرك، هذا صبي يتيم لا شيء له، وإنما أطعمه من مغزلي وآمل أن يكسب دانقا يعود به على نفسه.
فقال لها أبو حنيفة: مرّي يا رعناء هذا هو ذا يتعلم أكل الفالوذج بدهن الفستق، فانصرفت عنه وقالت له: أنت شيخ قد خرّفت وذهب عقلك، ثم لزمته فنفعني الله بالعلم ورفعني حتى تقلدت القضاء، وكنت أجالس الرشيد وآكل معه على مائدته، فلما كان في بعض الأيام قدم إلى هارون فالوذجة فقال لي هارون: يا يعقوب، كل منه فليس كل يوم يعمل لنا مثله، فقلت: وما هذه يا أمير المؤمنين…؟ فقال: هذه فالوذجة بدهن الفستق، فضحكت، فقال لي: مم ضحكت…؟ فقلت: خيرا، أبقى الله أمير المؤمنين، قال: لتخبرني، وألح علي، فخبّرته بالقصة من أولها إلى آخرها، فعجب من ذلك وقال: لعمري إن العلم ليرفع وينفع دينا ودنيا، وترحّم على أبي حنيفة، وقال: كان ينظر بعين عقله ما لا يراه بعين رأسه.
وذُكر أن الرشيد وأم جعفر اختلفا في اللوزينج والفالوذج، أو الخبيص، وحضر أبو يوسف القاضي، فسأله الرشيد، فقال: إذا حضر الخصمان حكمت. فقُدِّما إليه، فأكل منهما حتى انتهى، فقال له الرشيد: احكم، قال: اصطلح الخصمان وأعفياني من الحكم. فضحك الرشيد، وأمر له بألف دينار، وبلغ زبيدة الخبر، فأمرت له بألف دينار إلا ديناراً.