الإيحاء المبطن في ديوان ( إهداءات شعرية ) لمصلح مباركي

✍نقد وتحليل/ نبيل منصور نور الدين :

في أحيانٍ كثيرة تتسرب الملهمات الخفية في النفس إلى البوح الذي يستحضر مدركات الأشياء. ويوطن العاطفة موطن التوجد ويحيل مسافات الروح إلى مقامات إدراكية بالغة المعنى ما يجعل من الحدس القائم بالذات منطلقا للشعور المكافئ للبوح بحيث تستمد الروح من عوالمها المدهشة رؤى تجتاز المسافات الزمنية والمكانية وتحيل الإيحاء الروحي إلى مدركات عاطفية تتسرب إلى الذات وتستحضر مجمل التصورات استحضارا تتمتع معه الذائقة فتنهمر أشجان المسافات وتتحور مدلولات العشق الروحي منسجمة مع الوعي والضمير.
وفي أحيان أخرى تقيم مدلولات التعبير مسافة بين الروح والذات مسهبة في الإيحاء الضمني بحيث تستشعر المد المنطقي بين ما هو مجاز روحي وبين ما هو استعارة ذاتية تتناهى الى الشعور المحض وتوافق بين اسهاباتها وبين ذاتية التعبير ومنطق الذات  . 

وفي هذه الوقفة نقرأ لشاعر من شعراء المملكة له إمتاعه الشعري وله اسهاماته في الأدب السعودي هو الشاعر السعودي مصلح مباركي الذي يتميز شعره بالتنوع الموضوعي والإبداعي إذ له العديد من الإصدارات الشعرية المتنوعة التي نقرأ منها ديوانه الشعري ( إهداءات) الذي يهديه للوطن أرضا وإنسانا ويهديه للكون حوله بمعانيه ورؤاه مستجليا الذات والشعور ومناغما الحدس الكامن في الإدراكات وموائما بين طبيعة الشعور والهامات النفس حيث يقرأ الشاعر الوجود من زاوية الإيحاء المستنكه في الإدراك ويوائم بين ما هو واحي بطبيعته كالإنسان وبين ما هو مستدرك في الذات بالمعنى إذ تنوعت إهداءاته لذات الحسن أحيانا وللنجم أحيانا أخرى وللربيع وللحياة كلها وهو إذ ينوع هذه الإهداءات يجعل من الأرض ( الوطن) مقام المتعة بإنسانه وأحيائه ويهدي جزءاً من ديوانه لمن لهم في ذاكرته مساحات لا تنساها رؤاه ومواجيده وذاكرته فالشاعر مصلح مباركي يستلهم مواجيده في هذا الديوان من ينابيع تمثيلية خالصة تحاكي شجونه وأشواقه للكون من حوله وتحيل مدركاته إلى إيماء مبطن يتواكب مع الألفة الروحية والشجن الكامن في الأعماق إذ تغلب على شعره دلالة الإيحاء التي تتسرب إلى حيثيات المدركات وتساوق بين مدلول البوح وبين الإلماح الرمزي الخفي موائما بين ما هو مدرك وما هو مستنطق إذ يوحي في قصائده بمدلولات لا حصر لها في التعبير تحيل الإيماء المشافه الى مقروء مستنطق في الذات والضمير وتوحي نصوصه بذاتية التعبير المجازي التي تخلص إلى ذاتية البوح ما يحيل مدركات شتى الى المعرفة المتسربة والكامنة في الأعماق بمعنى انه يحيل المنطوق الى مفهوم تعبيري يتجاوز عتبات المعرفة الضمنية ويسرب مفاهيما لا حصر لها من الإمتاعات المتعددة في شتى جوانب الحياة فالشاعر يقيم مع الحدس الكامن في الضمير ويتخذ من مدلولات الإيحاء مقاما للألفة الروحية المنسجمة مع الذات وهو يتخذ من الإحساس المبهم والشعور المشافه للذات مجازا ضمنيا لمدركات اللاوعي مسربا بعض الوميض الذكي إلى مساحة التأمل واليقين.
ففي أكثر من قصيدة من قصائد ديوانه ( إهداءات) يوطن ذاتية الحدس مع الروح ويعمق الصلة بين ما هو مدرك وبين ما هو خفي في اللاوعي بحيث يمتع بمعانيه الذائقة الروحية والشغف الكامن في الضمير وهو يستدرج منطوقه من حيث الإشارة الرمزية للمبهم الخفي في الذات محيلا الإدراكات المنوعة إلى إيحاء رمزي مستقرأ يشافه المغيبات الروحية ويمازج بين ما هو ذاتي في الضمير وبين ما هو مستشعر في الإدراك مخاطبا ببوحه ميتافيزيقية الروح وهو يستعيض بالمغيبات الرمزية عن الاستشعار الذاتي للمنطوق متجاوزا بذلك عتبات الشك المحض ومخاطبا بمفهومه التصوري ذاتية المنطلق الروحي في الإدراك.
والشاعر إذ يحيل الضمني إلى منطوق يجعل من حيثيات الشعور منطلقا للمبهمات المخفية تستقرأ الإحساسات المرهفة وتناغم بين ذاتية الشعور وبين الضمني من الإلماح المنطوق في الذاكرة بحيث يحيل ما هو مشافه للوعي إلى استجلاء يقيني بذاتية الشعور من هنا يجعل من عتبات الروح مجازا محالا إلى الوعي باستدراج تام لماهية الشعور وبمنطوق خالص في الذات يتناغم وشفيف الإحساس مستدرجا المساحة المسربة في الضمير إلى فيوض شعورية مستنكهة في الذائقة المدركة للوعي من ذلك قوله من قصيدة ( إهداء الى غروب الشمس):

يا غروبَ الشمسِ أحكي
عن محبٍ بات يشكي

كانَ في دنيا الغرامِ
لاهياً في الصبِّ يُذكي

حتى ما ذاقَ البعادَ
واكتوى بالهجرِ يبكي

ليتهُ زاد اتعاضاً
واعتقاداً دونَ شكِّ

إنما هذي الحياةُ
أنسُها من بعدِ ضنكِ

ليتهُ عاشَ اعتدالاً
بينَ إمساكٍ وتركِ

فالهوى إن زادَ حداً
عائدٌ بالبُغضِ يحكي

فالمدركات المخفية هنا تستقرأ بالإلماح دون شك والمنطوق المسرب من الإحالات الضمنية يقيم مع المعرفة في وعي الناطق بينما تدرك الإشارات الرمزية بحلول الذات مع الماح خفي إلى المدرك اليقيني والإحساس المصور بالسؤال الخفي الذي يستحث الذاكرة الواحية إلى منطوق مشافه للروح يحث الإبهام للمعرفة والتسريب الروحي إلى عتبات اليقين كما يومئ بالشعور إلى ذاتية المنطوق بتسريب دلالي بليغ مشافه للوعي وهو هنا يحيل الضمني من المدركات إلى استقصاء مبطن لماهية الكون من حوله ويبارح الشجن إلى الكيفية التي قام عليها سؤال الروح بينما تدرك الإبهامات المخفية في الذات بالضمير الكامن في اللامدرك من الحيثيات الروحية والمعمولات المندغمة مع النفس والذات.
بينما يقول في قصيدة ( إهداء الى مهجة الحسن):

تنفسَ الصبحُ من عينيكِ فانطلقي
ولا تلومي الهوى إن زاد في أرقي

أنا المحبُّ وكلُّ الناسِ قاطبةً
لم يعلموا إنني في الوجد لم أفقِ

في حسنكِ اليوم غاض الشمس طلعتهُ
وأدبر الليل لم يقوى على ألقِ

يا مهجةَ الحسنِ ما ذا أنتِ قائلةٌ
لمن تحدى النوى والوصلُ لم يرق

ففي هذه الأبيات يذكي الشاعر بمخيلة روحية الشوق الكامن في الأعماق وبشغف محض يترجم إيقاعات الشعور ويتناهى الى الجمال المطلق في كون المحبوبة متلطفاً في الخطاب الروحي الذي يعمق الإحساس بماهية المدركات من حوله مستجليا الذات والضمير في تشافههما مع الحدس الكامن في الروح المعلنة التي تتناغم وذاتية الإلماح جاعلا من العتب المخفي منطلقا للشعور المبهم باتجاه مهجة الحسن ما يغاير طبيعة البوح من ذاتية المبهم الخفي إلى الشعور المعلن والمدرك في الروح جاعلا من عتبات التمعن في الجمال روحا أخرى توائم الروح المثالية وتستنطق مدركاتها في الشعور واللاشعور.
بينما في قصيدة ( إهداء إلى الفراق) التي يقول فيها:

لو بنتُ ما أخفيه زاد تألمي
ألما له تأبى الهمومُ تقلصا

حسبي فقد أضنى الفراقُ بناره
ورمى عليَّ بهمهِ وتخلصا

حسبي فما زالت بعيني عبرةٌ
دعتِ البكاء فكنت منها أحرصا

يجعل الشاعر من المنطوقِ مبهما في اللاوعي يستجر الذاكرة المخفية للبوح ويسترسل في انتباهات الشعور مكيفا الذات مع الروح ومسربا حيثية البوح إلى الخفي من المدركات ما يحيل الضمني المنطوق إلى معرفة مباشرة مع الحدس وهنا استجلاء لماهية الروح واستلهام مدرك لوحي الذات بمباشرة يقينية للتمعن في وحي الذات جاعلا المنطوق مشافها للمدرك بحيث يقيم مع معمولات الوعي مساحة من التأمل والإدراك
وللشاعر مصلح مباركي قصائد كثيرة رائعة في هذا الديوان لا يتسع المقام لذكرها جعل الشاعر منها جسرا بينه وبين الذات الأخرى متجها بأشواقه ورؤاه وإدراكاته إلى أحبائه وخلانه مقيما معهم ألفة الذات والروح.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى