التغافل
✍️عبدالرحمن بن عبدالله اللعبون :
قال بعض الحكماء: وجدت أكثر الأمور لا تجوز إلا بالتغافل.
وللشافعي في هذا الشأن:
أحب من الإخوان كل مواتي
. وكل غضيض الطرف عن عثراتي
يوافقني في كل أمر أريده
. ويحفظني حيا وبعد وفاتي
فمن لي بهذا ليت أني أصبته
. فقاسمته ما لي من الحسنات
تصفحت إخواني فكان أقلهم
. على كثرة الإخوان أهل ثقاتي
والعقلاء يستكثرون من الأصحاب، ويبذلون في ذلك الكثير من مالهم وجاههم، ويستقلون ما استطاعوا من الأعداء.
قال أبو حاتم: العاقل إذا دفعه الوقت إلى صحبة من لا يثق بصداقته، أو صداقة من لا يثق بأخوته، فرأى من أحدهما زلة فرفضه لزلته، بقي وحيدا لا يجد من يعاشر، فريدا لا يجد من يخادن، بل يغضي على الأخ الصادق زلاته، ولا يناقش الصديق السيء على عثراته، لأن المناقشة تلزمه في تصحيح أصل الوداد أكثر مما تلزمه في فرعه.
أنشد منصور بن محمد الكريزي:
أغمض عيني عن صديقي كأنني
. لديه بما يأتي من القبح جاهل
وما بي جهل غير أن خليقتي
. تطيق احتمال الكره فيما أحاول
متى ما يريني مفصل فقطعته
. بقيت وما لي في نهوضي مفاصل
ولكن أداريه وإن صح شدني
.. فإن هو أعيا كان فيه تحامل
قال ابن الأثير عندما تحدث في تاريخه عن صلاح الدين الأيوبي: وكان، رحمه الله، حليما حسن الأخلاق متواضعا، صبورا على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره ولا يُعلمه، ولا يتغير عليه، وبلغني أنه كان جالسا وعنده جماعة، فرمى بعض المماليك بعضا بسرموز فأخطأته، ووصلت إلى صلاح الدين فأخطأته، ووقعت بالقرب منه، فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلم جليسه، ليتغافل عنها.
وأنشد الطائي:
ليس الغبي بسيد في قومه
. لكن سيد القوم المتغابي
ومن غض الطرف عن زلات وتعديات إخوانه نبل مكانه.
قال جعفر بن محمد الصادق: عظموا أقداركم بالتغافل.
وقال أكثم بن صيفي: من شدّد نفّر، ومن تراخى تألّف، والشرف في التغافل.
وإذا كان التغافل محمودا، فإنه مع من له فضل ومودة معروفة أوجب، وهم أحق في أن تمرر هفواتهم دون لوم أو تعنيف.