قراءة للأديب والناقد الأستاذ علي حميد الحمداني

قراءة للأديب والناقد الأستاذ علي حميد الحمداني.

( آلام الانسان ) مقالات تؤسس لحوار متوازن وهادئ

قراءة تكوينية في كتاب ( آلام الانسان ) للأديب القاص جليل كريم

….

جسامة مسؤولية الكتابة تتجلى في ان نسمح بانبثاق الفكرة من الذات وان نميط الستار عن قناعاتنا في تجلي وسطوع مثالي كوضوح الشمس في نهارات الصيف لنسمح لهذه الافكار بالخروج من اقفاص الفردانية الى سوح المشاركة التفاعلية الصرفة مع الجميع, ومنحها فرصة الاختبار كما يُختبَر الذهب في النار ومراقبة الأثر الذي تحدثه في الجمهور.

علينا ان نجلس الى شاطئ الوجود ونجمعه كله؛ الماضي منه والحاضر بنظرة شاملة وحكمة بالغة يمتثل ازاءَها التاريخ ونستشرف المستقبل وندرك ان لا شيء خلقه الله أكثر عظمة من الانسان.

أرى أن صورة الخطاب في النص الأدبي من حيث الشكل تخلق فرقا في إمكانية الولوج الى مكنوناته وتناولها وفق مقتضيات التحليل السردي الذي يضع النص بكل مقوماته على مائدة التشريح ودراسته بشكل مستفيض دراسة تخرج بنتائج شاملة عن ذلك النص ما دام النص يتناول موضوعا اختمر في مخيلة المؤلف نتيجة قضية ما وعنده القدرة على معالجة هذه القضية بأساليب فنية تتفاعل بين يديه ليطرح بها الحكاية بخطاب يوظف فيه موهبته بالموالفة بين عناصر الزمان الحقيقي وترتيب زمان الخطاب، وتشخيص الخطأ والصواب وفق منظوره وقناعاته.

وعند مطالعة المقالات التي تضمنها كتاب المؤلف ( جليل كريم ) وهي بحدود الستين مقالا والتوغل في تفاصيلها يحدد المؤلف مكانه من كل قضية كأن يكون راويًا يتحدث عن مكنونات الشخصية التي تكون عادةً بؤرة المشكلة او القضية التي يسعى ( جليل كريم ) لإشهارها, او يعالج الشخصية وقضيتها من الخارج, او يكون على مقعد الحياد الايجابي عارفا بخبرته كقاص بالدرجة الأولى أن للمنظور أثر كبير في اطلاق يد المؤلف ليتناول القضية من الزاوية البصرية او التخيلية المناسبة له, يتناولها في حكاية احيانا ووفق مستوى سردي وبصيغة تتناسب مع قدرة ( جليل كريم ) في صياغة القص الأدبي ثم يعتمد اسلوب الخطاب المفتوح ليحول الموضوع السردي الى قضية عامة يتشارك فيها مع عقل القارئ لضمان القبول ومن ثم المشاركة وطرح الحلول ليتحد مع ( جليل كريم ) في السردية النهائية للمقال والارتفاع بالسرد الى ما يطمح له المؤلف في ان تكون القصة موضوع المقال هي لب القضية التي تحكي الهَمَّ الجَمعي وان مجيء صياغتها بالشكل القصصي المُغري بالقراءة والتعاطف والمشاركة في الحلول تجنّب المؤلف والمجتمع تلك الوسائل المباشرة العقيمة التي تعتمد طريقة ( قل ولا تقل ) و ( افعل ولا تفعل ) وهي وسائل وصيغ اصبح المجتمع ينفر منها ولا يعتبرها مصادر ووسائل ناجعة لتقويم السلوك.

لم يكن ( جليل كريم ) في هذه المقالات ناقلًا محايدًا كما كان سلامة موسى، ولا ساخرًا كما مارك توين, ولا عابثا كما فعل برنارد شو في بعض مقالاته, ولا طارئًا صامتًا يترقب الشخصية الكامنة في سردية المقال كما فعل شربل داغر, لكنه اختار وبذكاء ان يكون راويًا من الداخل مُلمًّا بتفاصيل الاحداث مما خوّله ان يسرد حكاية النص نيابة عن المجتمع الذي عاش ومازال يعيش تلك القضايا الكامنة في الحكاية.

وببساطة ان تعامل المتلقي مع أي نص أدبي ومنها المقال والقصة القصيرة يشكل المحور الأساسي في إنتاج النص باعتباره الهدف الذي تتجه اليه القوى الكامنة في النص والتي استقت طاقتها من عدة عوامل أبرزها مؤلف النص والخلفية الفكرية والثقافية التي ارتسم عليها النص والكمّ المعرفي والفنّي الموجَّه والمكون لقيمة النص وهذه العوامل تتآزر معا لتمنح القارئ حافزا ورغبة بالقراءة ومزج مخرجات النص مع خزينه الثقافي العام ليرى أية أضافة فكرية أو فنية أضافها الى مُدَّخرات الذاكرة.

سيما اذا كان القارئ مسلحا بذكاء عاطفي يحاذر فيه أن لا يفقد العقلَ المنطقي ولا تزدوج الرؤية ولاتدخل الخرافة لتضع مسارات واهمة تنتهي الى الكثير من البدايات القلقة والدوامات المبهمة. وهذا الخطر أدركه ( جليل كريم ) وحرص على إن يؤطر المهمة المعرفية بعوامل نجاح التفاعل التام بين العناصر الثلاث، المقال والقارئ والحلول المطلوبة، لتكون تلك القراءة ( عملا انتاجيا ) يتشارك فيه الجميع..

ان هذه المقالات التي احتواها كتاب ( آلام الانسان ) تعد من انجازات ثقافة ( تقبّل الآخر ) فهو يصب في صالح الفهم المتبادل بعيدا عن التعصب الفارغ، نحن نقول للآخر بأسلوب هادئ ومرن ( مَن نحن ) وان الموازين قامت على مبدأ المشاكسة والمقاومة لتكون محصلة الاختلاف مقبولة لدينا ونرحب بها كثيرا فهي مقدار الوزن الحقيقي لصحة العقائد والانتماءات، وهي المقياس الذي يؤشر مقدار ومواقع النقص والزيادة والتقصير والافراط..

علينا ان نجعله يدرك اننا نرفض التعصب الأعمى فهو مهلكة وان الدفاع عما لا نفهمه دليل جاهلية تكمن في العقول..

وخلاصة القول ان المواقف ترتبط أولا وأخيرا بالوعي والالتزام الاخلاقي. وان الخطر الحقيقي يكون ماثلا حين يبرز الدخيل الذي يتعمد ان يُخَثِّر دم التاريخ قسرًا ليتوقف ضخ المعلومة عند عقدة مؤلمة متورمة يسبب الضغط عليها انذارًا مهددا بالانفجار بين السذج من حملة انصاف العقول والذين يمكن اخضاعهم بتكتيك بسيط يتم طرحه في الوقت الخبيث المناسب ليتحولوا الى اسلحة دمار شامل تبطش بالحياة تحت لواء الخرافة.

أبارك للقاص والكاتب الرائد في هذا المجال الشيخ ( جليل كريم ) واتمنى ان تنال مؤلفاته مكانها الذي تستحقه في المكتبة العربية وقبل ذلك في عقول وسلوكيات الجيل الجديد الذي هو في أمسّ الحاجة الى مؤلّفات من هذا الصنف الفريد.

…….

بابل ٢٠٢٤

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى