هارون الرشيد وابن السماك

عبدالرحمن بن عبدالله اللعبون :

وفي مواعظ القلوب وأنه كان رحمه الله غزير الدمع، عن منصور بن عمار رحمه الله تعالى قال: ما رأيت أغزر دمعاً من ثلاثة فضيل بن عياض وأبي عبد الرحمن الزاهد وهارون الرشيد. وفي بيان المقام والمنصرف كان لابن السماك مكانة عظيمة عند الخلفاء، وقد وعظ الرشيد مرة فقال: يا أمير المؤمنين، إن لك بين يدي الله تعالى مقاماً، وإن لك من مقامك منصرفاً، فانظر إلى أين منصرفك، إلى الجنة أو إلى النار…!
فبكى الرشيد حتى قال بعض خواصه: ارفق بأمير المؤمنين.
فقال: دعه، فليمت حتى يقال خليفة الله مات من مخافة الله تعالى.
وقال الرَّشِيد لابن السماك: عظني، فقال: يا أمير المؤمنين إنك تموت وحدك، وتغسل وحدك، وتكفن وحدك، وتقبر وحدك، يا أمير المؤمنين إنما هو دبيب من سقم، فيؤخذ بالكظم، تزل القدم، ويقع الفوت والندم، فلا توبة تنال، ولا عثرة تقال، ولا يقبل فداء بمال.
ودخل ابن السماك يوما على هارون الرشيد فوجده يرفع الماء إلى فمه ليشرب فقال: ناشدتك الله يا أمير المؤمنين أن تنتظر به قليلاً.
فلما وضع الماء قال له: أستحلفك بالله تعالى لو أنك منعت هذه الشربة من الماء فبكم كنت تشتريه…؟
قال بنصف ملكي.
قال: اشرب هنأك الله.
فلما شرب قال: استحلفك بالله تعالى لو أنك منعت خروجها من جوفك بعد هذا فبكم كنت تشتريها…؟
قال: بملكي كله.
قال: يا أمير المؤمنين إن ملكاً تربو عليه شربة ماء لخليق ألا ينافس فيه.
فبكى هارون حتى ابتلت لحيته.
وروى خالد بن عبد الله الطوسي قال: لما حج هرون الرشيد استند يوماً إلى ميل من تعب ناله، وإذا بسعدون قد عارضه وهو يقول:
هب الدنيا تواتيكا
. أليس الموت ياتيكا
فما تصنع بالدنيا
. وظل الميل يكفيكا
ألا يا طالب الدنيا
. دع الدنيا لشانيكا
كما أضحكك الدهر
. كذاك الدهر يبكيكا
فبكى هارون وقال: الويل لنا إن لم يعف الله عنا.

وعن محمد بن أبي العتاهية قال: قال الرشيد لأبي: عظني؛ فقال له: أخافك. فقال له: أنت آمن. فأنشده:
لا تأمن الموت في طرفٍ ولا نفس
. إذا تستّرت بالأبواب والحرس
واعلم بأنّ سهام الموت قاصدةٌ
. لكلّ مدّرعٍ منّا ومتّرس
ترجو النجاة ولم تسلك طريقتها
. إنّ السفينة لا تجري على اليبس
قال: فبكى الرشيد حتى بلّ كمّه.
وفي سنّة سابقة أن أول من زاد في الكتابة بعد حمد الله الصلاة على رسول الله هارون الرشيد: كان إذا كتب فأتى أحمد الله إليك كتب: وأسأله أن يصلي على محمد وآله، قالوا: وكان ذلك من أفضل مناقبه، وكان الرشيد كاتباً شاعراً، خطيباً.

Related Articles

Back to top button