رحل رجل بألف “الشيخ فريح العقلا” – 2
✍ صالح الريمي :
ليس للحياة معنى أو قيمة إذا ما كان الإنسان قابِعًا في غياهب السكون، أما الإنسان الفعَّال المبادر يُدرِك قيمة صناعة الحياة، لذلك يسعى لأن يترك بصمته في حياته، وكثير هم البشر الذين مروا على هذه الحياة دون أثر، ثم ارتحلوا وانتقلوا في الغابرين، لكن كان من بينهم بشر أبت الرحيل إلا بترك الأثر، فما زالت بصماتهم بارزة ومعالمهم براقة واضحة تُعجِب الناظرين، قد ارتحلوا نعم، لكن باقية ذكراهم الحسن بين الأحياء..
إن حديثنا عن مثل هؤلاء الخيّرين من أهلنا وأحبابنا ومشايخنا الكرام وعلمائنا الأفاضل يأتي من باب التذكير بمحاسنهم وفضلهم في فعل الخير انطلاقًا من قول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: (اذكروا محاسن موتاكم)، وكذلك ورد في احاديثه صلى الله عليه وسلم: (أنتم شهود الله في الأرض).
سمعت من أحد المقربين من الشيخ يقول:
مرت بي لحظات إنسانية مع الشيخ وفي بخاطري شريط طويل من الذكريات الجميلة والمواقف الإنسانية العظيمة مع رجل أحب الناس وخدمهم وأعطى دون أن ينتظر الشكر أو المكافأة، وكان يقول: “إن محبة الناس لا تشترى بالمال وإن الإنسان مهما بذل من مال من أجل كسب ود الناس لن يحصل على ذلك، ما لم تكن تلك المحبة نابعة من القلب، فالمحبة المرتبطة بالمصلحة محبة مؤقتة زائلة”..
أما تلمس أحوال المحتاجين والمعوزين فحدث ولاحرج فكم سيتذكره من بيت وأسرة اعتادت على عطاء يديه الحانية؟ وكم من معسر يسر له وكم من محتاج مكروب فرج كربته، كل ذلك بلا من ولا أذى بل بخفية واستحياء وبكل سعادة وسرور فهو كما قال الشاعر:
تراه إذا جئته متهللاً
كأنك تعطيه الذي أنت سائله
هو البحر من أي الجهات أتيته
فلجته المعروف والجود ساحله
كل من حضر الصلاة والدفن على الشيخ فريح العقلا رحمه الله، يتبين له مدى حب الناس للشيخ أثناء تشييع جنازته. تزاحُم الناس في المسجد واصطفافهم خارجه ووقوفهم منتظرين خروج الجنازة، ولم يكن لمصلحة يرجونها من رجل قد توفي وإنما كان حبًا لهذا الرجل الذي أحبوه حيًا وشيعوه بقلوبهم ميتًا..
فكان الحضور مهيبًا يعبر عن مدى فقدهم له، ولاشك أن كلّ من حضر الجنازة المهيبة لهذا الرجل الكريم سيذكر قول الإمام أحمد بن حنبل: “قولوا لأهلِ البدعِ؛ بيننا وبينكم يومُ الجنائزِ”، بداية من المسجد بالصلاة عليه، حضر كم هائل من الناس، وما رأيت في جدة حضر هذا العدد للصلاة على جنازة إلا لجنازة الشيخ فريح العقلا رحمه الله تعالى.
وعند خروجنا من المسجد متجهين إلى المقبرة للدفن، رأيت ازدحامًا هائلًا في طريق الحرمين، وكأننا في موكب لأحد ملوك الأرض، وقبل وصولنا إلى المقبرة بكيلو لا تجد موقفًا لسيارة فارغًا، وعند بوابة المقبرة سألني أحد المارة من هذا الذي مات؟ هل هو أمير؟ فقلت له لا، فقال سبحان الله لم أرَ في حياتي مثل هذه الكثرة من الناس..
وأثناء الدفن سمعت عددًا من الواقفين بمختلف أطيافهم وأجناسهم كلمات الثناء والشكر، وذكر مناقبه وأعماله الطيبة والدعاء بالرحمة والمغفرة وجزيل الثواب له رحمه الله تعالى، وكلًا يروي موقفًا للشيخ معه كأنه أحد المقربين جدًا من الشيخ.
وبكل صدق وأمانه وإخلاص أقولها بأعلى صوتي أن الشيخ فريح العقلا يعد بألف رجل لا بل بمليون رجل، فهو ذلك الكريم الهمام الذي عرف طريق الخير والكرم وكل المناقب والصفات الحميدة، وهو الرجل الذي يملك بين أضلعه قلبًا رحيمًا فما من محتاج جاء إليه وعاد مخذولًا، وهو السخي الكريم الذي حمل هموم الفقراء ومساعدة كل ضعيف ومكروب وشمل كرمه وسعيه البعيد قبل القريب..
هذه بعض مآثره رحمه الله بقيت بعد رحيله عن هذه الدار ذكرى عطرة، شاهدًا مشرفًا تهتف له الألسنة والقلوب محبة وتقديرًا: فتدول أحاديث الرجال وتنقضي، ويبقى حديث الفضل والحسنات، وكم مات قوم وما ماتت مكارمهم، وعاش قوم وهم في الناس أموات، فهنيئًا له هذا الذكر الحسن والثناء الطيب وجزاه الله خير الجزاء وأسكنه جنات النعيم.
*ترويقة:*
قبل أقل من شهرين من وفاته تلقيت اتصالًا كريمًا من الشيخ فريح العقلا لاستلام تبرعٍ مالي لصالح أيتام في مدينة يمنية، وكعادته رحمه الله وبحسب ما يوصيي دائمًا أن يكون ذلك بعيدًا عن الإعلام والشهرة والحديث..
وقال لي أحد المقربين من الشيخ فريح بأن الشيخ دائمًا لايود أن ينشر شيء من أعماله الخيرية بين الناس، وكان يرفض ذلك ويقول من يريد أن يفعل الخير فليس بحاجة أن يقتدي بالآخرين، وكان هذا ديدنه ومنطقه في فعل الخير، فمن يعرف الشيخ فريح العقلا جيدًا يعرف معدنه وطيب خصاله وأخلاقه.
*ومضة:*
اترك أثرًا في كل طريقٍ تمُر به، حديثًا لطيفًا، ابتسامةً جميلة، خُلقًا رفيعًا، دع الأماكن تذكُرك بخير، حتى إذا نسيك جميع البشر..
والقاعدة الجميلة تقول: “وكنْ في النّاسِ أجملهمْ، بكفٍّ تُغْدِقُ الإحسانْ، ولا ترحلْ بلا أثَرٍ، بلا ذكرٍ، بلَا صَوتٍ، بلا عُنوانْ!”
*كُن مُتََفائِلاً وَابعَث البِشر فِيمَن حَولَك*