فنجان قهوة في السكوار
فنجان قهوة في السكوار
مجموعة قصصية للأديب عز الدين ميهوبي
القصة -1-
*مكانٌ بثلاثة أسماء..
قال صاحبُ الطّربوش العُثماني الأحمر: “كُنّا نلتقي في الجنينة بعد كلّ صلاةِ عصر ونتحدّثُ في ثلاثة أشياءٍ لا غير، آخر مسرحيّة لمحيّ الدّين بشطارزي، والتعليق على آخر مباراة لمولوديّة الجزائر، وآخر أغنيّة للشيخ مريزق.. بينما يتحدّثُ آخرون في السياسة ومشاكل حزب الشّعب”. أمّا بائعُ العُملةِ الصّعبة فيقُول: “أسمعُ كثيرًا في التلفزيون الحديث عن بُورصة وُول ستريتْ بأمريكا، بينما في السّكْوار نملكُ بورصةً لا تُخطئُ حساباتِها صُعودًا وهُبوطًا باستخدامِ حاسبةٍ إلكترُونيّة يدويّة صينيّة سِعرُها خمسين دينارًا”، وفي مقهى الحريّة الذي يقعُ على الشّارع، يجلسُ صحفيٌّ يقوم بتحقيقٍ في تاريخِ المكان، يقُول لصاحبه: “حديقةُ بُور سَعيد، هي الواجهة التي يسهُل على القادمين إلى العاصمة الدّخول منها، والذّهابُ عميقًا في أحيائها”.
قديمًا كان اسمُها الجَنينة، وبعد أن زارها الرئيس جمال عبد النّاصر بعد الاستقلال صار اسمُها بُور سَعيد، وبعد أن انتشرَ فيها الباعةُ والمتجوّلون والمُتحوّلون صارَ اسمُها السّكوار.
هو مكانٌ، يختزلُ كلّ النّماذج البشريّة التي تصنعُ يوميات مدينة الجزائر. يعبُرها القادمون من مُدن الدّاخل الذين يأتون لقضاء مآربهم، ويجلسُ فيها المُحالون على المعاش، يستعيدون ذكرياتٍ منتهيّة الصلاحيّة ويُعلّقُون على شبابٍ يمرّون قريبًا منهُم “كأنّهُم من فصيلةِ النساء والعياذ بالله”، ويتنقّلُ فيها المُحتالون واللصُوص الذين يختارون الغُرباء، ويتجوّلُ المتسوّلون والمُعوزون، ويلتقي فيها المُدمنون وباعة الأقراص المُهلوسة، وتنتشرُ فيها العرّافاتُ وبائعاتُ الوَهم، وينتظرُ فيها القادمون من وراء الصّحراء لحظةً للعُبور إلى حيثُ الجنّة التي يحلُمون بها وراء البحر، ويقفُ على هامشِها تُجّار العُملة الصّعبة، فيتصرّفُون كما لو أنّهُم في بنوكٍ متنقّلة، وترتاحُ تحتَ أشجارِها نساءٌ مُسنّاتٌ أرهقتهنّ شوارعُ العاصمة، باتجاهِ باب عزّون أو نحو البريد المركزي. يتقاطعُ فيها النوابُ والمُحامون والفنانون والعاطلون عن العمل، والباحثون عن أيّ خدمة، وتنتشرُ عيُون رجالِ الأمن في كلّ الزّوايا، وتمتلئُ المقاهي المُطلّة على الحديقة بالذين يمتهنُون ملء الفراغِ وتستهويهم أحاديثُ السياسة والكُرة والمحاكمات وأسعار الزيت والحليب، وبجانبهم يأخذُ آخرون وقتًا في نشر الإشاعات والأكاذيب وتحريفِ من تنشرُه الصّحفُ من أنصافِ حقائق.
كانَ النّادلُ يقرأُ وجهي، ويقُول لي: “عندما أراكَ تُفكّر، أشعُرُ أنّ قلبَك يتجوّلُ في الجنينة، وعقلكَ يستذكرُ أيام حديقة بُور سَعيد، بينما تنظرُ عيناك إلى السّكوار الذي يجمعُ في نظرةٍ واحدةٍ كلّ متناقضات البلد. أنتَ تراهُم، أمّا أنا فأعيشُ معهُم، ثلاثةُ أرباعهم يشربون قهوةً مرّةً، ليسَ لأنّ مرض السّكّري يعرفُ انتشارًا فحسب، ولكن لأنّ هُموم النّاس تزيدُ كلّ يوم، بعضُهم يبحثُ عن منصبِ عمل، وبعضُهم الآخر عن سكن، ويسعى غيرهم إلى توفير المَهر، ويبحثُ راغبُون في العُمرة أو الحجّ عن سعرٍ أرخص لليُورو، ويأتي عُشّاقٌ للمسرح فيكتفُون بقهوةٍ واحدةٍ بينما يحجزُون الكرسيّ يومًا كاملاً. صرتُ أحفظُ أسماءهُم، وأعرفُ تفاصيل حياتِهم، وكثيرٌ منهُم يستلفُ منّي مبالغَ صغيرة، كأن يشتري عُلبة سجائر، أو يدفعَ مقابل تعبئة شريحة هاتفه، أو تذكرة الميترُو. لقد تحوّلتُ بقوّة تأثيرِ هذا المكان ونماذج النّاس التي تقصده إلى غُوغل السّكوار بامتياز”.
لم يكد النّادل يُنهي كلامهُ، حتّى اقتربَ منهُ صاحبُ الطّربوش العُثماني، وقال له: “حتّى يوم الجُمُعة لم نعد قادرين على الجلوس في الجنينة، لهذا جعلنا من المقهى جنينة صغيرة”، ثم يطلبُ شاي بالنّعناع. وينادي عليه تاجرُ العُملة: “أفسدُوا علينا اليوم السّوق. ضبطوا شبكةَ تبيعُ العُملة المزوّرة”، فيسألهُ الصحفيّ المُحقّق: “أيُّهُما أسبقُ الحديقة أم المقهى؟”، فيُجيبُه صاحبُ الطّربوش: “في العام الذي أُسّست فيه المولوديّة، لم يعرفِ النّاس في هذا المكان سوى الجنينة، واليوم هي لا تختلفُ عن واد كنيسْ وسوق الحرّاش”.
كنتُ أستمعُ للحوار، بينما أحرّكُ الملعقة في فنجان قهوتي المُرّة، وأقول للنّادل: “اعتبرني ابتداءً من اليومِ واحدًا من الذينَ صرتَ تعرفُ تفاصيل حياتِهم. أختلفُ عنهُم في شيئين، أنّ لي ربطةُ عُنقٍ ولا أُدخّن.”. ابتسمَ، وقال لي: “هنا، عندك ما تشُوف، وإذا شُفت بدّل الحديث، واطلُب قهوة مُرّة.”.