هارون الرشيد والعباس بن الأحنف
✍عبدالرحمن بن عبدالله اللعبون :
من الشعر الرقيق قال الأصمعي: دخل العباس بن الأحنف على هارون الرشيد، فقال له هارون: أنشدني أرقّ بيت قالته العرب، فقال: قد أكثر الناس في بيت جميل، حيث يقول:
ألا ليتني أعمى أصم تقودني
. بثينة لا يخفى علي كلامها
قال له هارون: أنت والله أرقّ منه حيث تقول:
طاف الهوى في عباد الله كلهم
. حتى إذا مر بي من بينهم وقفا
قال العباس: أنت والله يا أمير المؤمنين أرقّ قولا مني ومنه حيث تقول:
أما يكفيك أنك تملكيني
. وأن الناس كلهم عبيدي
وأنك لو قطعت يدي ورجلي
. لقلت من الهوى أحسنت زيدي
فأعجب بقوله وضحك.
وعن عبد الله بن الربيع قال هَارُون الرَّشِيد في الليل بيتاً ورام أن يشفعه بآخر فامتنع القول عليه، فقال: عليَّ بالعَبَّاس بن الأحنف الشَّاعِر، فلما طُرق ذعر وفزع أهله، فلما وقف بين يدي الرَّشِيد، قال له: وجّهت إليك لبيت قلته ورمت أن أشفعه بمثله، فامتنع القول عليّ، فقال: يا أمير المؤمنين، دعني حتى ترجع إليّ نفسي، فإني قد تركت عيالي على حال من القلق عظيمة، ونالني من الخوف ما يتجاوز الحد والوصف، فانتظره هنيهة ثم أنشده البيــت:
جنــان قــد رأيناهــــا
. ولــم نــر مثلهــا بشـــرا
فقال العَبَّاس بن الأحنف:
يزيــدك وجههــا حسنــاً
. إذا مـا زدتــــه نظـــــرا
فقال له الرَّشِيد زدني فقال:
إذا مـا الليـل مـــال عليـ
. ــك بالإظــلام واعتكــــرا
ودجَّ فلــم تــرى قمـراً
. فأبرزها تـــرى قمــــــرا
فقال له الرَّشِيد: قد ذعرناك وأفزعنا عيالك، فأقلّ الواجب أن نعطيك ديتك.
وأمر له بعشرة آلاف درهم وصرفه.
ومن أجمل الشعر وأرقه ما نقله جماعة من أهل البصرة حين قالوا: خرجنا نريد الحج، فلما كنا ببعض الطريق إذا غلام واقف ينادي: هل فيكم أحد من أهل البصرة…؟
فملنا إليه وقلنا له: ما تريد…؟
قال: إن مولاي لما به يريد أن يوصيكم.
فملنا معه، وإذا شخص ملقى تحت شجرة لا يحير جواباً، فجلسنا حوله، فأحس بنا، ورفع طرفه وهو لا يكاد يرفعه ضعفاً، وأنشأ يقول:
يا غريب الدار عن وطنه
. مفرداً يبكي على شجنه
كلما جد البكاء به
. دبت الأسقام في بدنه
ثم أغمى عليه طويلا؛ ونحن جلوس حوله إذ أقبل طائر، فوقع على أعلى الشجرة، وجعل يغرد، ففتح عينيه فسمع تغريده ثم قال:
ولقد زاد الفؤاد شجى
. طائر يبكي على فننه
شفّه ما شفني فبكى
. كلنا يبكي على سكنه
ثم تنفس تنفساً فاضت نفسه منه، فلم نبرح من عنده حتى غسلناه وكفناه، وتولينا الصلاة عليه، فلما فرغنا من دفنه سألنا الغلام عنه، فقال: هذا العباس ابن الأحنف.
وكان العباس بن الأحنف عربياً شريف النسب، لم يتكسّب بالشعر، وإنما ينظم ما يجيش في خاطره، وأكثره في الغزل، ولم يتجاوزه إلى مديح أو هجاء، وكان له مذهب حسن، ولديباجة شعره رونق، ولمعانيه عذوبة ولطف، توفى سنة 192هـ.