رائج

كواليس 5 سنوات تحت قيادة د، زقزوق، د. كمال بريقع يروى عمله داخل مركز حوار الأديان برئاسة الفيلسوف الإسلامي: حكاية حوار لا أنساه مع الوزير الراحل.. أسفر عن إهدائى نسخة من مذكراته

العالم الكبير كمال بريقع أستاذ الحوار واللغويات المبتعث إلى باكستان متحدثا عن أستاذه زقزوق:  نموذج لرجل الدولة الناجح فى انضباطه وحرصه على المصلحة العامة ونظافة اليد وطهارة اللسان

 

 

 

عشرات التقارير والحوارات والمقالات الصحفية، تحدثت عن الفيلسوف الراحل الدكتور محمود حمدى زقزوق، وزير الأوقاف الأسبق، عضو هيئة كبار العلماء ومناصب أخرى كثيرة، من قريب ومن بعيد، منذ إعلان خبر وفاته، لكن فى هذه السطور يدور الحوار مع أحد أبرز المقربين للدكتور الراحل منذ 2004 فى وزارة الأوقاف، وهو الدكتور كمال بريقع عبدالسلام، الذى عمل مترجماً له حتى قبل وفاته بوقت ليس بالكثير، كونه منسق عام مركز حوار الأديان بالأزهر الشريف، وكشف «بريقع»، خلال الحوار، عن كواليس فترة طويلة لازم خلالها الدكتور الراحل، وتابع العديد من جوانب حياته الفكرية والعلمية عن قرب، وقرر أن يخصنا بهذه التفاصيل التى تذكر لأول مرة.. وإليكم نص الحوار..

عَمِلت مع الدكتور زقزوق لسنوات طويلة.. حدثنا عن أول لقاء لك به?

– التقيت بالدكتور زقزوق للمرة الأولى فى وزارة الأوقاف عام 2004، وقد كلفت آنذاك للقيام بأعمال الترجمة له فى لقاء أحد الوفود الأجنبية وقت أن كان وزيراً للأوقاف، وبعد انتهاء اللقاء طلب منى اصطحاب الوفد وتوديعهم ثم العودة مرة ثانية إلى مكتبه، وبعد أن عدت شجعنى وشكرنى على تكبد مشقة الحضور، وطلب منى أن أترك عنوانى ووسيلة التواصل معى لدى مدير مكتبه فى حال ما إذا احتاجوا إلىَّ، ثم أهدانى أحد مؤلفاته، وللمفارقة العجيبة كان عنوان الكتاب «الإسلام وقضايا الحوار»، ثم قام فاصطحبنى إلى القائمة التى تشتمل على صور وزراء الأوقاف السابقين وكان بعضهم ممن شغل منصب الإفتاء ورئاسة الجامعة ومشيخة الأزهر بعد ذلك.
وقد تأثرت بهذا اللقاء إلى حد بعيد، وما زلت رغم طول العهد الذى مر أذكره، وبالرغم من تلك الهيبة التى كانت تعلوه ووقار العلماء الذى كان يزينه، فقد شد انتباهى تواضع الرجل الشديد وبساطته، وكان ذلك بداية التعرف على نتاجه العلمى ومتابعة ما يكتبه وما تنتجه وزارة الأوقاف من موسوعات فى هذا الوقت، خاصة أن اسم الدكتور زقزوق كان يتردد كثيراً فى الأوساط العلمية آنذاك كأحد أعلام المدرسة الأزهرية التى تجمع بين الثقافتين: العربية الإسلامية والغربية، وكان الدكتور البهى الخولى والدكتور محمد عبدالله دراز، ثم فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب من رواد هذه المدرسة.

متى كان أول لقاء معه تحت قيادته فى مركز الحوار؟

– فى عام 2006 سافرت للعمل بأحد المراكز الإسلامية وانقطعت اللقاءات بيننا، ثم عدت فى 2015، وتم تكليفى للعمل كأحد أعضاء مركز حوار الأديان بالأزهر الشريف عند تشكيله للمرة الأولى، ثم تكليفى بعدها للعمل منسقاً عاماً للمركز، ولأشرف بالعمل والتعلُّم من الدكتور زقزوق وعلى مدار خمسة أعوام كاملة.

كيف كان تعامله معكم داخل المركز؟

– كان رحمه الله فى تعامله معنا شفوقاً عطوفاً، يصبر علينا ويتعامل معنا بحلم شديد وأدب جم، يوجِّه ويعلِّم ويستمع بإنصات لما نقول ويشجعنا دائماً، ولا يقلل من رأى أحد ولا يسفهه، وكان يداعبنا فى بعض الأحيان، وكان حديثه لا يُمل، فدائماً حين ننصت إليه نتعلم من خبراته ومواقفه وعلمه وفلسفته، وبالرغم من تقدمه فى العمر كان يحافظ على مواعيده ولا يتأخر عنها، وكنت أعجب له وهو فى هذه المرحلة العمرية كيف يصبر على العكوف أكثر من أربع ساعات يقرأ جميع مقالات مجلة الأزهر كلمة كلمة، ويحرص على أن تخرج فى أجمل صورة، وفى أبهى حلة، ولا ينتظر جزاء على ذلك فى الدنيا، وقد حققت المجلة انتشاراً غير مسبوق فى عهده لتجدد أبوابها وموضوعاتها، بالإضافة إلى تطوير القسم الأجنبى فيها، وكان رحمه الله يتابع ما يستجد من أعمال فى بيت العائلة ومركز الحوار بلا كلل أو ملل.

حدثنا عن مواقف عالقة فى ذهنك لا تنساها مع الدكتور الراحل؟

– هناك مواقف كثيرة لا حصر لها، لعل أبرزها ما حدث خلال فترة مرضه، حيث كنت أزوره فى منزله وأعرض عليه تقريراً عما تم إنجازه من أعمال وكان يسعد بهذا، وقال لى ذات مرة: لا ينبغى أن نقلل من قيمة أى عمل نعمله فقد يخطو المرء منا خطوات يحسبها قليلة ثم يأتى من بعده ليكملوا ما بدأ ليكتمل البناء ويرتفع.
وكان رحمه الله مخلصاً ومحباً للحق وحريصاً على الدفاع عن المظلومين، وكان لا يجامل فى الحق، أجمع المنصفون من العلماء والمثقفين على حبه واحترامه وتقديره، وكان يمثل بحق أنموذجاً لرجل الدولة الناجح بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانى الانضباط والدقة والهيبة والحرص على المصلحة العامة ونظافة اليد وطهارة اللسان، وكان مترفعاً عن الصغائر، لا يستمع لتوافه الأمور ولا يسىء الظن بأحد ولا يشغل نفسه بالحديث عن الناس، وهكذا العظماء دائماً.
وكانت له قدم راسخة فى علم الفلسفة المقارن والذى كان يعد أحد أقطابه، وكان رحمه الله مفكراً فقيهاً متكلماً، نجح أن يضع الإسلام فى سياق العصر الذى نعيش فيه وأن يتفاعل مع الواقع ليشكل رأياً سديداً فى معظم القضايا المعاصرة والمشكلات التى اعترضت طريق المجتمعات المسلمة وشغلت عقول مفكريها، وقد استطاع من خلال كتاباته ومؤلفاته أن يثرى الحياة الثقافية داخل مصر وخارجها، فما ذهبت إلى محفل دولى، إلا واستمعت أحاديث الثناء عليه وسيرته العطرة تفوح فى المكان.

كونك من الشخصيات البارزة التى لازمت الراحل رحمه الله.. حدثنا عن أبرز المفاتيح التى تميز بها؟

– تميز الدكتور زقزوق، رحمه الله تعالى، بشخصيته التى انفتح بها على الآخر واحترام الرأى والرأى المخالف، بل كان يرى أن الرأى المخالف قد يكون أكثر فائدة من الرأى الموافق لفهم القضية من جميع جوانبها وشتى أبعادها، وكان يرى أن أفضل طريقة لتقديم الإسلام لغير المسلمين فى المجتمعات الغربية وتعريفهم بحقائقه هى معرفة المنهجية الغربية التى يرتكز عليها التفكير المنطقى الذى يعتمد العقل والمنطق والحجة والإقناع، أو بمعنى آخر التركيز على الدليل العقلى قبل الحديث عن الدليل النقلى، ومخاطبة عقولهم قبل مخاطبة مشاعرهم، فضلاً عن تمثل الإسلام سلوكاً وعملاً قبل أن يكون وعظاً وخطباً، وقد تجلى هذا فى كتاباته للرد على شبهات المشككين ودحض أباطيلهم وما يُثار من شبهات فى كتابات الإعلام الغربى من الربط بين الإسلام والإرهاب، وكان يؤكد دائماً على قيمة العقل الإنسانى وأهميته فى التعرف على وجود الله، وأن التأمل فى النفس الإنسانية من شأنه أن يقود الإنسان للتعرف على خالقه، وكان يشير فى هذا الصدد إلى ما أكد عليه الإمام محمد عبده أن الإيمان بالله -الذى هو أصل الاعتقاد والذى ينبنى عليه كل دين صحيح: «لا يعتمد على شىء سوى على الدليل العقلى والفكر الإنسانى الذى يجرى على نظامه الفطرى».

هل هناك حوار علمى دار بينكما حول قضية معينة؟.. وماذا كانت النتيجة؟

– فى الحقيقة دارت بيننا حوارات كثيرة، لكن الحوار الذى لا أنساه، كنت ذات مرة أعرض عليه شيئاً فتحدثنا فى حوار دار بينى وبينه رحمه الله قلت له «العقاد» كتب سيرته الذاتية وقد حوتها ثلاثة أسفار: كتاب «أنا» وكتاب «حياة قلم» وكتابه «فى بيتى»، بل ويرى بعض النقاد أن رواية «سارة» لم تكن سوى تأريخ لحياته العاطفية، وأن شخصية «همام» تشير إلى «العقاد» نفسه، وأضفت: أن طه حسين كتب سيرته الذاتية فى كتابه «الأيام»، كما كتب أحمد لطفى السيد سيرته فى كتاب يحمل عنوان «قصة حياتى»، وكتب أحمد أمين سيرته فى كتاب «حياتى»، واقترحت عليه أن يسجل قصة حياته بقلمه ويؤرخ لنفسه، فما أحوج الباحثين من الشباب إلى القدوة، وأن يتخذوا من سير العلماء الأجلاء نبراساً يهتدون به ويسيرون على نهجهم، فابتسم قائلاً: «إنه قد شرع فى هذا منذ فترة طويلة» لأجده بعد وقت قصير، وتحديداً فى الثامن عشر من شهر مايو عام 2015، يهدينى الجزء الأول من سيرته الذاتية والتى حملت عنوان «رحلة حياة»، وتم نشر جزءين آخرين أهداهما لى فيما بعد.

ما الذى حواه هذا الكتاب؟

– حين تطالع مقدمة الجزء الأول من «رحلة حياة» تجد أن شخصية العالم الفيلسوف لا تنفك عنه حتى وهو يؤرخ لنفسه، فهو يتكلم بأسلوب سهل عن قضية معقدة وواحدة من أخطر القضايا التى شغلت الفكر الدينى، وهى قضية القضاء والقدر ويربطها ربطا فلسفيا بسيرة حياته، وان أقدارنا هى ما نختاره لأنفسنا، ويعترف فى مقدمته أن هناك الكثير من الآمال والأحلام التى بناها فى خياله تحقق بعضها ولم يتحقق البعض الآخر، ويقرر أن الواقع هو ما نصنعه بأيدينا وما تخطط له عقولنا، وتتجه إلى تنفيذ تفاصيله جهودنا على مدى تاريخ حياة كل منا، وهذا يعنى فى المحصلة النهائية أن الواقع هو خيارنا الذى اخترناه بأنفسنا لأنفسنا.

إذاً كيف كان يرى الخطاب الدينى وتجديده؟

– كان رحمه الله يرى أن الخطاب الدينى لا بد أن يحقق التوازن بين أمور الدين والدنيا، وأن تركيز الخطاب الدينى على الأمور الغيبية والانشغال بالآخرة على حساب الأمور الدنيوية هو أمر درج عليه العلماء منذ عصور التراجع الحضارى، وكانت نتيجة ذلك أن ساد التواكل بين الناس والخوف من المجهول وانتشر الفهم المغلوط للقضاء والقدر، وتلاشت المبادرات الذاتية اعتماداً على معجزات غيبية، على الرغم من التطورات المذهلة فى عالمنا المعاصر، لذا آن الأوان أن يتخلى الخطاب الدينى عن هذا التوجه الذى ورثناه لأن الأمة فى أشد الحاجة إلى صحوة حضارية، وأن الإيمان من شأنه أن يغرس الأمل فى النفوس وأن المؤمن لا ييأس ولا يُصاب بالإحباط أو القنوط أو يتسرب القلق إلى نفسه، لأنه يثق فى الله وفى عدله وفى رحمته، وكان رحمه الله يرى أننا قد انشغلنا كثيرا بالقضايا الفرعية.

خلال 5 سنوات قضيتها مع الدكتور زقزوق فى مركز الحوار.. لو تذكر لنا أبرز الإنجازات التى حدثت خلال فترة رئاسته له؟

– المركز كان له دور كبير فى تقوية العلاقات مع جميع الكنائس، فقد تم تدشين المركز لتقوية أواصر العلاقة التى انقطعت بين الأزهر والكنيسة الكاثوليكية، وذلك بسبب تصريحات لبابا الفاتيكان بنديكتوس السادس عشر فى الثانى عشر من سبتمبر 2006، خلال المحاضرة التى ألقاها فى جامعة ريجنزبورج بألمانيا هاجم فيها الإسلام، والتى على اثرها جمد الأزهر الشريف الحوار مع الفاتيكان، وقد كتب الدكتور زقزوق رحمه الله آنذك مقالاً بعنوان «عفواً قداسة الحبرالأعظم» فند فيه كل ما جاء فى محاضرته من إساءات ومغالطات ومنها أن الإسلام يتجاهل دور العقل وأن تعاليمه قد نشرت بحد السيف، وقد اعتذر البابا بنديكتوس نفسه بعد ذلك وتم نشر اعتذاره فى الصحف وقتذاك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى