مازال هناك رجال

✍ صالح الريمي : 

كان قبل الحرب الموظف الحكومي يتقاضى راتبًا لا يتعدى 300 دولار، ماذا بوسع هذا المبلغ أن يسد من احتياجات ومطلبات لإطعام أفراد الأسرة، فهو يحتاج إلى الإغاثة كل شهر لمن لديه مغتربًا في الخارج، فكيف اليوم حال هذا الموظف بعد ثمان سنوات من الحرب وهو لا يستلم راتبًا كل شهر؟ وكيف يعيش هذا الموظف هو عائلته بدون راتب؟..
حتى العمال في القطاع الخاص والمهن الحرة توقفت أنشطتهم بسبب الحرب وصاروا على حافة الهاوية، والتاجر أيضًا على باب الله يشتغل ويأتي آخر الشهر لديه عجز بسبب اختلال فارق الصرف وانخفاض القدرة الشرائية للمواطن اليمني، فما بالكم بغالبية المواطنين وهم بدون أعمال ولا مصدر دخل كافِ.

من هذه المقدمة أنقل لكم قصة بتصرف وهي مولمة ومبكية لأحد تجار صنعاء، حدثني بها صديقي قبل كم يوم، يقول: طلب مني أحد أصدقائي التجار أن أذهب معه إلى أحد عملائه وكان يسأله دين بمثدار 13,500 دولار، وفي الطريق كان يرعد ويزبد مهددًا ومتوعدًا إن لم يدفع سيذهب به إلى السجن، لأنه لم يسدده ويتهرب ويماطل مذ سنتين، وصلنا إلى بيت الرجل، رحب بنا ادخلنا مجلسه، وكان عبارة عن بطانيتين خفيفة و 5 مكارت (مسند) فقط..
قصة الرجل قبل الحرب كان تاجرًا عنده معمل طباعة علي الأثاث والأكياس والفنايل وكان معه 8 طابعات ضخمة، ويستورد مواد خاصة بالطباعة من الخارج، ومع اندلاع الحرب توقف العمل تمامًا، وتراكم عليه الدين للبنك الذي اقرضه واضطر لبيع الآلات بأسعار زهيدة لقضاء دين البنك، وحالته المادية تسوء يومًا بعد يوم.

قبل أن يبدأ صديقي التاجر بمحادثته عن دينه سأله عن المجلس الضخم الذي كان في بيته ولماذا لم يراه؟ سالت الدموع من عين الرجل وقال والله وبالله وتالله لم يعد معي في البيت أي أثاث، فقد بعته ولم يبقَ إلا فرش وبطانيات وشولة غاز عادية حتى الفرن بعته..
ثم استأذننا الرجل ودخل إلى أهله وعاد ومعه سلس ذهب، أعتقد قيمته لن تتجاوز 300 دولار، واعطاه لصاحبنا وأخذ المصحف من الرف وحلف أنه لا يملك غيره وقد تركه احتياطًا إذا مرض أحد من عائلته، ثم قال: أنا رهن اشارتك تريد أن أذهب معك إلى السجن فلا مانع لدي، علي الأقل أرتاح من الهم والقلق الذي يعصف بي كل يوم تجاه دينك.

ثم يكمل الرجل حديثه معي: قلت في نفسي يا الله كم صغرت هذه الدنيا الحقيرة في قلبي، كيف تغير حال الرجل من تاجر إلى فقير لايملك قوت يومه، سبحان الله مغير الأحوال من حال إلى حال، وبعد أن خرجت من تفكيري إذ بي أنظر إلى صاحبي التاجر يمسح الدموع من عينيه وقال: سامحك الله يا رجل وعفى الله عنك واخرج سندات القبض وعمل له سند قبض بالمبلغ، وقال براءة لذمتك حتى لا يطالبوك أولادي من بعدي، واخرج من جيبه مبلغ بسيط ووضعه في يد الرجل قائلًا له: هذا مصروف للاولاد، ثم قال له فكر بأي مشروع صغير وأنا سأشاركك، أنت من أوفى الرجال، فقد تعاملت معك 5 سنوات وما رأيت إلا الوفاء..
تعانقا بحميمية وأنا مثقل بجسمي لا استطيع الحراك، مبهوت لهول الموقف، لا أصدق عيني أنه ما زال هناك رجال من هذا النوع في الزمن الصعب. انتهت القصة ولم ينتهِ الكلام.

*ترويقة:*
مع كل الظروف الاقتصادية ما زال ثمة بصيص من الأمل بأن الخير ما زال موجود في بعض أفراد الشعب اليمني، فأهل اليمن أهل خيرٍ وبركة، ولا يزال الإيمان منيرًا في قلوب طائفةٍ منهم إلى قيام الساعة، وأكثر ما يحتاج له الناس هذه الأيام هو التراحم فيما بينهم، فالرحمة والتراحم أجمل شيء في الحياة، لو دخلت قلوبنا وأدخلناها في حياتنا وبيوتنا صلحت أمورنا كلها، وعشنا أسعد حياة، وأحلى حياة.

*ومضة:*
في ظل هذا الوضع المتأزم والواقع المرير من بعد الحرب، أتسائل عن الطريقة التي استطاعت بها الكثير من الأُسر اليمنية الصمود لأكثر من ثمان سنوات، بدون دخل شهري منتظم يؤمن لها احتياجاتها الأساسية؟ أو لأكون أكثر دقة، احتياجاتها الضرورية التي تضمن لها البقاء على قيد الحياة.

*كُن مُتََفائِلاً وَابعَث البِشر فِيمَن حَولَك*

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى