شعرية مفارقة أم رقص على وقع المعنى؟
(قصيدة دو، ري، مي، للشاعر توفيق ومان)
د: عواطف سليماني
كلية الآداب واللغات، جامعة تبسة، الجزائر
المفارقة ليست فراقا، إنها ظاهرة إنسانية تلامس الإنسان حين يجد نفسه يقف أمام مفترق طرق، حيث يصعب عليه اختيار أي الطرق يسلك؟ قد تبدو المسألة للبعض أنها تحمل روح التناقض وعدم قبول الآخر، لكنها حقيقة هي حالة مسيطرة على الذات البشرية، حين تتساوى عندها المتناقضات، ومع هذا فهي ليست بكاشفة للغيب، ولا باعثة للتشاؤم، بل هي محاورة ومراوغة للمتناقضات في أسمى تجلياتها، حتى أنها تعزف على المعنى، وتجعل الحرف راقصا على وقع الدلالة، وخاصة أذا تمثلت في قصيدة” دو، ري، مي…” للشاعر الزجال” توفيق ومان” هذه القصيدة التي بدت غامضة رغم وضوحها، وجامعة رغم اختلافها، قصيدة يأتلف فيها الظاهر بالباطن، والسعيد بالتعيس، والكمال بالنقصان.
1- عنونة المفارقة في” دو، ري، مي …”
لم يتوان الشاعر” توفيق ومان” في ركوب قطار الحداثة، والمضي سريعا إلى مصاف التجريب والتجديد، لقد رسم المعنى على تضاريس الحرف، وحدد الدلالة على تفاصيل الجملة، وعكس المشاهد على حساب النص، ليتشكل النص الشعري في عنوانه” دو، ري، مي…” تشكل العنوان لدى الشاعر قبل تمام بناء قصيدته، حيث كان عازفا مرتقيا السلم الموسيقي، مسترقا للأسماع قبل القلوب، إنها عنونة شعرية حافلة بالنغم واللحن، تروي عطش هامش التأويل لدى المتلقي والناقد معا، لأنها تقوم على تعدد المعنى وتشعب الدلالة.
إن الوعي الحداثي لدى الشاعر” توفيق ومان” جعله يهتم بأهمية العنونة لدواوينه الشعرية، وبخاصة وهو يرتاد المفارقة على مستوى نصوصه بكل جرأة وثقة، وبشكل لافت للاهتمام، لأن الشعر” يبني علاماته اللغوية عبر العنونة المفارقة، حاملا معه الدلالات التي يبعثرها العنوان شظايا، ليبني منها الكلام الواقعي من جديد، أو يعيد صياغته خلقا مدهشا” (1)… تتصف قصيدة” دو، ري، مي …” بمقارنة الكم الكبير من المحمولات اللغوية، كم هائل حمل رؤية مغايرة في تحقيق مفارقة بعيدة عن النظرة البسيطة لمسار الشعر الشعبي، لنجد كل الحساسيات الشعرية الجديدة قد تشكلت لدى الشاعر في أسلوبه المتميز من خلال نصوصه الحداثية.
” دو، ري، مي، فا، صو، لا، سي” عنوان قصيدة السلم الموسيقي( الصولفاج) حروفها أصوات متباعدة، دعت المستمع إلى التحليق في عالم اللحن، وإلى قراءة القصيدة مغناة على عزف أوتار الآلات الموسيقية، إنها قصيدة يصعب تركيبها وتفكيكها وتأديتها لدى المتلقي، سوى من كانت له حنجرة موسيقية تؤدي الألحان والمقامات على جناح الحروف والكلمات، مقامات السلم الموسيقي ساعدت على إظهار المعنى الخفي للقصيدة، وإضمار المعني الحقيقي، لأن القصيدة من خلال عنوانها” دو، ري، مي…” ترمز إلى جريان التخييل والوصف على لسان الشاعر، كجريان الموسيقي على الأسماع، إنها تعكس الجسد الأثيري لتلك الروح التي تسكن الجسد المادي، بعد نفخة أزلية نطقت من متونها نصوصا شعرية عبر صوت الشاعر” توفيق ومان” ليقع المتلقي لحظة تلقفها أسير عشقها النوعي.
ما لجرح بميت إيلام… بسهم سدد إلينا المتنبي سهمه القاتل ورحل، واليوم من كنانته يعيد بعثه الشاعر” توفيق ومان” بشيء من العبثية والسخرية تتألم مظاهر الطبية وتذوي النباتات إلى حافة الرحيل:
الساقية مشروكة، والخبيز زايد يصفار
الصابة بالدمعة ناشفة، والنهاوند على عكاز مرحي
مطحون في مهراس نحاس، والرنة طبخة لعراس
معنى زائف والآخر محتمل، ترك المتلقي أمام خيارين، إما أن يدرك دلالة القصيدة كما وردت بعنوانها الموسيقي” دو، ري، مي… وهو نوع من اللامبالاة، وأما قبوله كما ورد يخرج عما ينتظره المتلقي من الشاعر، والخيار الثاني : أن يغوص المتلقي في دلالات العنوان، بأن لا يكون مغنيا ولا مؤديا للموسيقى والقصائد الغنائية، بل أن يدرك ويسوغ فهم دلالات النص من ألم وحسرة في التعبير عن الذات الشاعر المبدعة، وهو بذلك يصنع المفارقة، بإشراكه لذات المتلقي النفس الشعري الإبداعي، لأن الشاعر عموما” يعيش على الدوام حالة من عدم الثقة، وهي حالة تبدأ في خارج الذات، ثم لا تثبت أن تنتقل إلى داخل الذات فتهزها هزا”(2) .
2- مفارقة التحول:
على محور آخر تشتغل المفارقة الشعرية عند الشاعر” توفيق ومان” على محوري التركيب والاستبدال سواء ما تعلق باللغة أو بالرؤية والأسلوب، والتي تظهر في سياق الخطية اللغوية، فقد استبدل حالة الحزن بحالة الفرح والنشوى، بشكل من الاختيارات الممكنة في صياغة تعبير عن رؤية شعرية مطلوبة لدى المتلقي.
فا، صو، لا، يغازل في الدو، والدف في راس الشارع
والجار قاعد يقارع بين حجاز، والرصد يستنا في الوعد
من صاد، وهاء، وياء مربوطة، بواو ونون
بين صولفاج وخطوط ملوية ، وزاد اللحن كية
صو، لا، سي، موجوع يا راسي من ناي مبحاج
ورباب مكسور، وكامنجة مزكومة، وطبيبهم في حالة إنعاش.
لهذا نجد التركيب بين محوري التركيب والاستبدال في شعر” توفيق ومان” هو اقتراب من النص الشعري بغرض معرفة خصائص بنيته اللغوية وأساليبه لأن” الوظيفة الشعرية إنما تتولد من إسقاط محور الاختيار
(الاستبدال) على محور التأليف( التركيب) (3).
3- المفارقة وظلال السرد:
يسافر بنا الشاعر” توفيق ومان” إلى عوالم أمجاد وبطولات رجالات التاريخ، حيث وقع كبير شعراء الشعر الشعبي الجزائري منذ زمن بعيد ” لخضر بن خلوف” مآثر الآباء و الأجداد شعرا، ليجد” توفيق ومان” في متكأ التاريخ سجلا حافلا بالمفردات اللغوية، والأنساق البنائية، وثقها في سردية شعرية تنبض بالحياة، شيد من خلالها المشهد السردي شعريا، لقد اتخذ من تفاصيل المكان سبيلا لصناعة المعنى وتحقيق شعرية نصه حتى بدا على وفاق كبير بين عالم الشعر وعالم السرد، ومع بيان ظلال السرد حلت آلات الموسيقى، ونفخ فيها من روحه الشعرية، فبدت شخوصا تحاور الزمن والإنسان، ويتحول من خلالها فعل الإنسان إلى فعل آلة، موضحا ذلك الصراع بين اللغة والشاعر، وهو يحاول إعادة ترتيب البيت الشعري، على نحو يجعل كل حرف في موقعه الموسيقي، وكل كلمة ضمن مضمارها الدلالي، وبين ما يصدره التاريخ ويتقبله المتلقي، تتسرب كلمات الشعر” توفيق ومان” عنيدة محطمة أفق توقع القارئ على نحو يجعله يرتاح لما وصل إليه من شعر.
وناي يزهر على الدو، ري، مي، فا، صو، لا، سي… واه يا ناسي… بشيء من المناجاة والإمتاع تتراقص حروف قصيدة” دو، ري، مي…” على معنى الشعر.