هارون الرشيد وأولاده

 

عبدالرحمن بن عبدالله اللعبون

عن الكسائي أنه دخل على الرشيد فأمر بإحضار الأمين والمأمون، فلم ألبث أن أقبلا ككوكبي أفق يزينهما هديهما ووقارهما، وقد غضّا أبصارهما، وقاربا خطوهما حتى وقفا على مجلسه، فسلما عليه بالخلافة، ودعوا له بأحسن الدعاء؛ فاستدناهما، فأجلس محمداً عن يمينه، وعبد الله عن شماله؛ ثم أمرني أن ألقي عليهما أبواباً من النحو، فما سألتهما عن شيء إلا أحسنا الجواب عنه؛ فسرّه سروراً استبنته فيه، وقال: كيف تراهما…؟ فقلت:
أرى قمرَيْ أُفْقٍ وَفَرْعَيْ بَشامةٍ
. يَزينُهما عِرْقٌ كريمٌ ومَحْتِدُ
سَليلَيْ أميرِ المؤمنين وحائزَيْ
. مَوارِيثَ ما أبقى النبيُّ محمّدُ
يَسُدَّانِ أنفاقَ النِّفاقِ بشيمةٍ
. يُؤيِّدُها حَزْمٌ وعَضْبٌ مُهَنَّدُ
قلت: ما رأيت، أعز الله أمير المؤمنين، أحداً من أبناء الخلافة ومعدن الرسالة وأغصان هذه الشجرة الزاكية أذرب منهما ألسنا، ولا أحسن ألفاظاً، ولا أشد اقتداراً على تأدية ما حفظا ورويا منهما؛ أسأل الله أن يزيد بهما الإسلام عزاً وتأييداً، ويدخل بهما على أهل الشرك ذلاً وقمعاً. وأمن الرشيد على دعائي، ثم ضمهما إليه، وجمع عليهما يديه، فلم يبسطهما حتى رأيت الدموع تنحدر على صدره، ثم أمرهما بالخروج. ثم قال: كأني بهما وقد حمّ القضاء ونزلت مقادير السماء، وقد تشتت أمرهما، وافترقت كلمتهما حتى تسفك الدماء وتهتك الستور.
وفي حكاية لطيفة حول هارون والشعر والمأمون، عن عبد الله بن محمّد التيميّ قال: أراد الرشيد سفراً فأمر النّاس أن يتأهّبوا وأعلمهم أنّه خارج بعد الأسبوع، فمضى الأسبوع ولم يخرج، فاجتمعوا إلى المأمون فسألوه أن يستعلم ذلك، ولم يكن الرشيد يعلم أن المأمون يقول الشعر، فكتب إليه المأمون:
يا خير من دبَّت المطيُّ به
. ومن تقدّى بسرجه فرس
هل غايةٌ في المسير نعرفها
. أم أمرنا في المسير ملتبس
ما علم هذا إلاَّ إلى ملكٍ
. من نوره في الظلام نقتبس
إن سرت سار الرشاد متّبعاً
. وإن تقف فالرشاد محتبس
فقرأها الرشيد فسرّ بها ووقّع فيها: يا بنيَّ ما أنت والشعر…؟ أما علمت أنَّ الشعر أرفع حالات الدنيّ وأقلُّ حالات السّري، والمسير إلى ثلاثٍ إن شاء الله.
وسمع الرشيد أولاده يتعاطون الغريب في محاورتهم، فقال: لا تحملوا ألسنكم على الوحشي من الكلام، ولا تعودوها الغريب المستشنع، ولا السفساف المتصنع، واعتمدوا سهولة الكلام ما ارتفع عن طبقات العامة، وانخفض عن درجة المتشدقين، وتمثل ببيت الخطفي جد جرير:
إذا نلت إنسي المقالة فليكن
. به ظهر وحشي الكلام محرما
وفي بيعة الأمين حدث أبو دعامة قال: قال سلم الخاسر في الرشيد حين عقد البيعة لابنه محمد الأمين:
قد بايع الثقلانِ مهديَّ الهُدَى
. لمحمدِ ابنِ زُبَيْدة ابنةِ جعفرِ
ولّيته عهدَ الأنامِ وأمرهمْ
. فدَمَغْتَ بالمعروف رأسَ المنكر
فأعطته زبيدة مائة ألف درهم.

Related Articles

Back to top button