التعاقب القيادي “بين وضوح الرؤية وسياسة الأرض المحروقة”
✍د/ أحمــد عبـد الفتــاح حمـدي الهـنداوي- أستاذ الإدارة والتخطيط والدراسات المقارنة المساعد – كلية التربية بنين بالقاهرة – جامعة الأزهر:
لله سبحانه وتعالى في خلقه سنن لا تتبدل ولا تتحول، جعلها عز وجل من دلائل قدرته، وآيات قهره، ودبَّر سبحانه بها خلقه، وبينَّها لعباده فيما أنزل من الكتاب، وما قص من الأخبار حيث قال تعالي في محكم التنزيل ﴿سُنَّةَ الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب:62] ومن السنن الربانية العظيمة في الخلق: تقلبُهم من حال إلى حال، ونقلُهم من طور إلى طور، ونجد هذه السنة الربانية في كل الأحياء على الأرض، وتجري على الأفراد والأمم والدول، بل وعلى النظريات والأفكار والصناعات والتطور، ونجدها في الزمان والأجواء والعمران فالدُّنيا كُلُّها إلىٰ تحوُّل وتبدُّل، حتَّى النَّهار يعتريه الرَّحيل فيأتي اللَّيل، واللَّيل بدورِهِ يملّ البقاء فيَرحل ليَسمح للنَّهار بالقُدوم. هذا التَّعاقُب جعلَ مِنَ الرَّحيل سِمةً لكُلِّ شيء.
ولا شك أن عجلة التغيير تدور في جميع المنظمات المُعاصرة، فلم يعد هناك شيئاً ثابتاً، إنما الثابت الوحيد هو التغيير (فدوام الحال حتما من المحال)، كما أن تقبُّل ثقافة التغيير والتجديد في المواقع القيادية وبذل الجهد وتفجير الطاقات في سبيل التقدم والنمو والتحول من حال إلى حال فضل؛ هو ديدان النجاح والرقي، حيث إن لهذا التطوير والتجديد معنى جميلاً للحياة بتجلياتها الرائعة، ما دام في إطاره الصحيح، وبما يتفق مع المستجدات والتطورات المجتمعية المُعاصرة وبما يتفق مع سياسة المنظومة وقيمها الحاكمة.
وقد ظهر مصطلح التعاقب القيادي Leadership Succession واضحاً جلياً في كافة المنظمات، كعملية حتمية يترك فيها أو يتقاعد القادة الإداريين من منصبهم، ويتم تعيين غيرهم لتأدية المهام الإدارية أو الوظيفية خلفاً عنهم، حتى يتم الحفاظ علي نجاح العمل واستمراريته، سواء كانت تلك المنظمات إنتاجية أم خدمية وغيرها، سواء أكان ذلك من الناحية العلمية الأكاديمية أو التطبيقية المهنية.
ولهذا فإن نجاح أي منظومة يرتبط ارتباطا وطيداً بنجاح قيادتها واتساق نظامها، لذلك مثلاً: نجد أنه عندما يستمر فريق رياضي في الهزيمة؛ تبحث إدارة النادي عن مدرب جديد، وعندما تمُرّ شركة أو مؤسسة بظروف صعبة؛ فإنها تبحث عن قيادة جديدة، وعندما يُعاني قسم معين من تفاقم الصراعات والأزمات؛ تبحث إدارة المنظومة عن قيادة جديدة. وبهذا نجد أن العلاقة واضحة ومحددة بين القيادة وفعالية الأداء، ونادراً ما تكون المشكلة في موهبة فريق العمل؛ حيث يتم اختيار أعلي الكفاءات الماهرة من الناحية الفنية، ولكن حينما يفشل فريق العمل أو المؤسسة ذات المواهب المتعددة؛ وقتها نبحث عن الجانب القيادي؛ لأنه زمام حال التميز أو التردي في تلك المؤسسة أو ذاك الفريق.
والجانب المُشرق والأكثر أهمية في استمرارية عجلة القيادة هو “التبادل الإيجابي للسُّلُطات والمسئوليات” والذي لا مجال فيه للعدائية أو الأنانية، فإذا لم يُسلِّم القائد مقومات النجاح لخليفته وكان مُحتفظاً بها لنفسه متحفظاً عليها؛ فلن يكون له إرثاً طيباً ولن يكون له أثراً إيجابياً في تاريخ الإنسانية.
وما يعضد هذا الجانب ويؤكد عليه، ما كتبه: (ماكس ديبري) صاحب كتاب “Leadership Is An Art” أن ترك الإرث هو إحدى المسئوليات الأساسية للقادة، فنجاح القائد في مؤسسة ما؛ يُقاس من خلال ما تم إضافته من قيمة وما تركه من إرث، ومعني ذلك أن القائد عندما تنتهي فترة ولايته فإنه يترك وراءه إرثاً، يستفيد منه من يأتي بعد ذلك ليكمل مسيرة البناء من حيث انتهى من سبقه، مما يستوجب أن يكون القائد الجديد على علمً بكافة التفاصيل في العمل، وما تتضمنه من نقاط قوة؛ ليزيد منها ويطورها، وما بها من أوجه قصور ليتفاداها، ولا شك أن توفير المعلومات الدقيقة والصادقة حول الواقع الإداري لمنظومة العمل لها أهمية كبيرة خاصةً خلال الأيام الأولى لتولي القيادة.
وإذا تأملنا بصورة أكثر عُمقاً في المجتمعات المُعاصرة، وما بات العصر حافل به من تحول رقمي حيال ركب التقدم؛ نري ما تعانيه المنظمات غالباً من ضغوط وتحديات مرتبطة بالانتقالات بين المناصب القيادية، ففي أي منظومة مستقرة؛ يكون الانتقال السلمي للسُّلطة أو القيادة هو المسار الطبيعي لها وفق رؤية واضحة ومُحددة، فتغيير القيادة في المنظمة يعني وجود استراتيجية قيادية جديدة ينتج عنها تغيير في مُناخ العمل إيجاباً أو سلباً.
وحيث إن للسُّلطة في حد ذاتها بريق يجعلها محط أنظار واهتمام كثير من الناس، حتى أن البعض جعل منها هدفاً من بين أهدافه العُليا التي يسعى للوصول إليها سواء أكان ذلك من خلال تنافس شريف أو تنافس غير شريف؛ فنري الكثير من الأفراد في سباق تنافسي لنيل السلطة وتولي القيادة مما قد يؤدي في بعض الأحيان الي نتائج سلبية تؤثر في المؤسسات وتدفعها نحو التردي، والواقع الإقصائي الشديد الذي يحدث بعد الانتقال القيادي يؤدي غالبا الي ظهور بعض المفسدين، والذين قد يكون لديهم دوافع اقتصادية وحسابات شخصية لتقويض وعرقلة أي تقدم مُحتمل أو انتقال سلمي أو استقرار مؤسسي.
إذا الأمر جلل والخطورة كبيرة في رحيل القائد (من بيده زمام الأمور وسلطة اتخاذ القرارات والإشراف على تنفيذها)، رحيله هذا؛ قد يُكبِّد المؤسسة – أحيانا – مجموعة من الخسائر نتيجة التنافس القيادي، والذي قد يُعرقل تقدم المؤسسة خاصة إذا استخدم القائد “سياسة الأرض المحروقة” قبل رحيله، وتعد سياسة الأرض المحروقة من أقسى أنواع السياسات والتي يمكن أن تؤثر بشكل سلبي في تحقيق أهداف المؤسسات.
وقد ظهر مصطلح “سياسة الأرض المحروقة” لأول مرة عام 1937م خلال كتابة تقرير حربي عن الحرب اليابانية الصينية، مفاده؛ “استراتيجية عسكرية يتم فيها إحراق كل شيء قد يستفيد منه الخصم”، وفي الأصل كان هذا المصطلح يشير إلى إحراق المحاصيل الفلاحية لعدم استعمالها من طرف العدو كمؤونة، أما الآن فقد انتقل هذا المُصطلح إلى الشركات والمؤسسات بمختلف أنواعها وحتى بين الأفراد والجماعات، وتعتمد تلك السياسة على إخفاء أو طمس أو تشويه أي شيء قد تستفيد منه القيادة الجديدة، والتضليل القائم على إخفاء المعلومات عنها.
وتكشف سياسة الأرض المحروقة هذه عن أنانية شديدة وضعف في نفوس القائمين عليها، لأنه يتعمد من خلالها تضليل وضبابية الرؤية لدى القائد الجديد، إما خوفاً من التفوق عليه أو تحصيل مكاسب أكثر بسهولة، مما يؤدي لتفاقم التحديات أمامه وبذله لمجهود أكبر.
والرؤية vision كمصطلح إداري معاصر وعنصر أساسي في سياق الفكر الاستراتيجي؛ تستخدمه المنظمات تعبيراً عن طموحاتها بشكل دقيق وواضح، متضمنة التبادل الإيجابي للسُّلُطات والمسئوليات خلال التعاقب القيادي، وإعداد وتأهيل قيادات الصف الثاني وجاهزيتهم للمشاركة في تنفيذ برامج الإصلاح، في ظل نمط قيادي يشجع علي المبادرة بتقديم أفكار إبداعية للتطوير والسعي نحو تنفيذها، ومناقشة القرارات الإدارية والعمل على تنفيذها بشكل جماعي تعاوني، ومنح الأفراد المشاركين في الإدارة الصلاحيات اللازمة التي تمكنهم من إنجاز أعمالهم، وترسيخ قيم العدالة والموضوعية والجدية في تطبيق الجزاءات على المخالف لقواعد الانضباط، وتحفيز السلوكيات الإيجابية وتشجيعها.
والرؤية الواضحة للتعاقب القيادي تكوِّن بؤرة تركيز بعيدة المدى، بحيث تشكل مصدرًا لاستمرارية القرارات والأفعال، وتوجيه المنظمة نحو المستقبل، والتعريف بتحديات التغيير التي يجب على القيادة مواجهتها لجعل الرؤية هي الواقع الجديد للمنظمة، مع التأكيد على أن الرؤية تختلف باختلاف طبيعة المنظمة واحتياجاتها، ومستوى التطور الذي وصلت إليه، وأيضًا بحسب ما تتحلى به القيادات من وضوح الرؤية والرغبة في التفوق والتميز.
واستشراف المستقبل المنشود للتعاقب القيادي لا يتوقف على صياغة الرؤية واختيار كلماتها فحسب، بل في التطبيق الناجح والفعال لتلك الرؤية، لأن رؤية من غير تنفيذ إيجابي هي مجرد حلم، كما أن العمل من غير رؤية يعد إهداراً للوقت، ولكن ما نريده هو الرؤية الواضحة للتعاقب القيادي، مع العمل الجاد والتنفيذ الواعي لها، بحيث تتكامل فيها الجهود عبر تحويل تلك الرؤية إلى واقع ملموس، من خلال استراتيجية قائمة على تقسيم زمني لتنفيذ الأهداف في مراحل متتابعة ومتتالية تُسهم في إحداث التغيير المنشود، مع القدر المُناسب من المرونة التي تُساعد على التكيف مع المتغيرات.
ولا يعتمد الانتقال الناجح للقيادة على القائد المنتهي ولايته فحسب، بقدر ما يعتمد على الاستجابة السريعة والفعالة للقائد الجديد لكل ما يدور حوله، ويظل الشُّغل الشاغل للقائد المُنتهي ولايته أن يجعل من أولى أولوياته مساعدة القائد الجديد على الاندماج مع فرق العمل بشكل فعال حتي يحقق الغايات المنشودة بتميز ورقي، تتبادل فيه الخبرات وتتكامل مع القائد الجديد، ودعم الإجراءات والعمليات، وتوفير البيانات والمعلومات التي يمكنها توجيه القيادة الجديدة نحو الإيجابيات والسلبيات، وتوضيح الرؤى والأهداف، وتوضيح ما تم إنجازه، وحجم التحديات التي قد تواجه القيادة الجديدة، وتقديم التوصيات اللازمة لنجاح المؤسسة وتميزها، وجاهزية صف ثاني من القيادات المؤهَّلة، مما يساعد على وضوح الرؤية وكسر القيود الروتينية وتمكين القيادة الجديدة من العمل بشكل أفضل.
وعلي الله قصد السبيل.