كونوا أثرياء بأخلاقكم!!

صالح الريمي :

هناك ناس أغنياء وناس فقراء، وهذا الحال هو ما تعبر عنه الآية الكريمة في قوله تعالى: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا)، ولهذا جعل الله عزوجل من الخلق فقراء وأغنياء لأنه لو بسط الرزق لجميع عبادة سيبغون في الأرض، ولكن الفقر يصبح دافعًا وسببًا للاجتهاد وإظهار الخبرات والكفاءات والتفوق للخروج منه إلى الاكتفاء أو الغنى، كما تقول الله تعالى: (ولَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا في الأرْضِ ولَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)..
أنقل لكم بتصرف رواية عامل نظافة في إحدى المدن العربية عن موقفين متناقضين حصلت له حيث يقول: في أثناء عملي كعامل نظافة ساقني ألله عزوجل إلى منطقة راقية جدًا في أحد الأحياء الغنية، وكان الحي جميل المظهر، توقفت بجانب أحد القصورة المزينة ومعي بعض حبات فلافل وكسرة خبز، وجلست بالقرب من سور القصر على الرصيف أتناول ماقسم الله لي من طعام.

خرج لي رجل يرتدي ملابس أنيقة متسائلًا: هل تظن نفسك في مقهى؟ ولم تجد مكانًا للجلوس فيه إلا هنا؟ قم يارجل واذهب إلى مكان آخر، هذا سكن لأحد أعيان البلد، لملمت بعضي وبحثت عن مكان أخر أجلس فيه لاكمل بقية طعامي، خرجت لي سيدة أقل أدبًا ونظرت إليّ بشمئزاز وأنا أتناول طعامي على طرف الشارع، لتبعدني عن المكان ويرافقها كلب أجمل منها وأكثر أدبًا، قمت من مكاني وأكلت بقية طعامي ماشيًا..
وفي يوم أخر حصلت على وجبة ثمينة علبة حمص من الحجم الصغير ورغيف خبز، فدخلت شارع ضيق في حي فقير وغالبية الأحياء الشعبية في هذه المدينة فقيرة، وبعد تجولي في الحي وإنهاء عملي
إفترشت الأرض، فشاهدني أحد الساكنين في الحي، سلم عليّ، وغاب قليلًا ليعود وهو يحمل مفرشًا من الحصير وكاس شاي وزجاجة ماء كبيرة، قائلًا لي: صحتين وعافية.

بعدها بقليل نظرت سيدة من شباك بيتها وغابت لتعود ومعها صحن فيه بعضًا من الخبز والجبن وقليلًا من الزيت، وقالت لي: هذا ما لدينا في البيت، وعندما رأيت ذلك الكرم والمساعدة دون طلب نزلت دمعتي من العين، فقلت في نفسي فقراء لكنهم كرماء، كما قال الشاعر:
كم من فقير غني النفس تعرفه
ومن غني فقير النفس مسكين
انتهت القصة ولم ينتهِ الكلام..
ويظل الغنى غنى النفس أولًا وأخيرًا، وتقلبات الزمان عبرة لمن يعتبر، وكونوا أثرياء بأخلاقكم، وأغنياء بقناعتكم، وكبارًا بتواضعكم، فهكذا تعيشون ملوكًا، وفي الواقع؛ هناك بعض الأدلة تفيد بأن الفقراء أكثر تعاطفًا من الفقراء، ومن يمتلكون أموالًا أكثر، أو يقيمون في مناطق مترفة أو ترتفع فيها تكاليف معيشتهم، ربما يتصرفون بشكل غليض ويتسم بقدر كبير من الشح، وهذه ليست قاعدة طبعًا ولا ينفي أن من بين الأغنياء من يتصفون بالكرم والجود والإيثار ويتبرعون من حر مالهم، وهذا مالمسته من كثير منهم حسب اختلاطي بهم، فقد وجدت كثيرًا منهم طيبين وكرماء يدفعون كل غالي ونفيس لمساعدة الفقراء والمساكين.

*ترويقة:*
الله تعالى قد قسم الأرزاق وقدر الأقوات وهدى الخلق لما ينفعهم وجعل لكل شيء سببا، فشرع الأسباب والسعي والتكسب والجد في تحصيل ما ينفع مع الاستعانة بالله في نجاح تلك المساعي، ففي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (المُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ ….)..
وإغناء هذا وإفقار ذلك لا يدل بالضرورة على تكريم الغني ولا إهانة الفقير، بل أقام الله سبحانه تفاضل بين عباده في الدنيا ولكن لم يجعله محصورًا ولا مقصورًا على التفاضل المادي، من مال ومنافع، بل هو أشمل من ذلك وأعم، إذ يدخل التفاضل في الأخلاق والكرم والبخل والعلم والعقل، والقوة والضعف، وغير ذلك مما هو مشاهد في حياة الناس.

*ومضة:*
قرأت بحثًا نفسيًا ميدانيًا إلى أن الأثرياء على ما يبدو هم أكثر شحًا وأقل قابلية للتعاطف مع المحتاج من الفقراء، وعلى النقيض دراسة أخرى أُجريت في هذا الشأن، على عدد كبير من الأثرياء فوجوا أنهم يتصفون بالسخاء والكرم، لكن الأكثر سخاءً كانوا الأقل ثراءً.

*كُن مُتََفائِلاً وَابعَث البِشر فِيمَن حَولَك*

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى