الجنرال الذهبي

كانت في جيبه خريطة تحرير فلسطين كاملة.. ولكن..

✍ فايل المطاعني :

على بعد ٢٥٠ مترا من خطوط جيش العدو الصهيوني.. ذهب ليستطلع عتادهم بنفسه وهو في رتبة فريق.. بين جنوده وضباطه.. فجأة انهالت عليهم القذائف والمدفعية.. وفي بسالة اندفاع كعادته.. أمرهم بالتراجع لأخذ مواقعهم والقتال.. وظل هو مع ضابط في خندقه يرى عن قرب مدى قوتهم.. وما لبث إلا وانفجرت بقربهما قنبلة أصابتهم بشضاياها.. قال الضابط أنا انصبت يا فندم.. لكن أصبتي قليلة.. فلم يرد عليه.. فقفز ليراه فإذا به قد فارق الحياة.
كانت فاجعة كبرى، ليس لمشروع جمال عبدالناصر في تحرير فلسطين بعد نكسة ٦٧م.. وليس للقوات المسلحة المصرية.. وإنما للأمة الإسلامية – بدون مبالغة-.. قال المتنبي عن فقد النادرين من الرجالات:
طوى الجزيرة حتى جاءني نبأٌ
فزعت فيه بآمالي إلى الكذبِ

كان يعقد عليه آمل الأمة الإسلامية في إرجاع الروح العسكرية وتحرير الأقصى.. من الصعب تصديق موت مفاجئ لعملاق مثل الفريق أول أركان حرب محمد عبدالمنعم رياض قائد أركان القوات المسلحة.. الملقب بنسر مصر.. ولقبه خبراء الجيش السوفيتي بالجنرال الذهبي.. لما حصل على المركز الأول بامتياز في أعلى دورة يأخذها الضباط الكبار.. هو في الحقيقة فقيه عسكري كما زكاه خبراء.. وعالم موسوعي في التاريخ والاقتصاد والاجتماع وغيرها (سأرسل لكم مقطع.. لتعلموا مدى علم الرجل) .. فضلا عن تخصصه العسكري.. يمتاز بثقافة واسعة وخطابة ذلقة.. وتواضع جم وشجاعة وإخلاص.. ويجيد أربع لغات من غير العربية (الروسية والإنجليزية والفرنسية والألمانية).. مما فتح له الاطلاع على علوم العالم المتحضر.. يقول: الضابط الحقيقي ليس الذي يجلس في مكتبه ويعطي الأوامر.. بل هو الذي يعيش مع أفراده ويتقدمهم في النزال.

استطاع كسر حاجز المستحيل.. اعتمد عليه عبدالناصر ليعيد بناء الجيش المصري بعد النكسة.. ثم التجهيز للحرب المصيرية مع إسرائيل.. فأعاد بناء الجيش بكل أسلحته.. ووضع الهيكل العام للحرب َوالرؤية التي تصورها مع قائده.. مما واصل بعده وبعد الزعيم من جاء بعدهما في حرب ١٠ أكتوبر.

خطته في تحرير فلسطين
نأتي للتصوره في حرب فلسطين، التي شبه خارطتها النحلة كما نقلها عنه محمد حسنين هيكل، مقابل عمودها العلوي جبهة سوريا، ومقابل عمودها السفلي جبهة مصر، ومقابل قصرتها جبهة شرقية تتمثل في الأردن، لكن مصر في الواقع بعيدة المسافة عنها، لوجود صحراء سيناء، وهي بحاجة إلى غطاء جوي للجيش المصري وبحاجة إلى لتحرك قواته إلى سرعة خاطفة حتى تصل إلى شمال غزة وشمال بيت لحم للوصول لأهداف يمكن التمسك بها.. ولأجل ذلك هو يرى أنه لا بد من دخول الجبهة الشرقية الأردنية للاستعانة بها في تحقيق الهدف.. والخصر أضعف الأعضاء في تلك الخارطة.. لذلك استقرأ أن تركيز إسرائيل على الأردن كان كبيرا لعزلها عن الصراع.. له قدرات عقلية استقرائية عجيبة وقد تنقل وسافر في الجبهات العربية وخلص بتلك النتيجة وعرف صحراء سيناء أكثر مما عرفها البدوي فيها.. وقرأ تاريخ اليهود وعرف طموحهم وامتداد أمنهم القومي.. وما مقومات استقرارهم الاقتصادي والاجتماعي وغير ذلك..

وهو ضابط مدفعية.. استقرأ توجه القوى الكبرى وتنبأ أن القوة القادمة هو المجال الجوي.. وأن التسليح الجوي سيصبح ليس مرهونا في تطوير الطائرات.. بل في مجال الصواريخ.. وفعلا هذا ما حدث لاحقا وهو ما نراه اليوم.. قال عن الصراع بين المسلمين وإسرائيل: الزخم الاقتصادي اللي نازل بالصهيونية العالمية.. لا يمكن لدولة عربية بمفردها أن تقاوم هذا المد المعادي.. يجب أن هذا المد العالمي أن يقابله مد عربي شامل.. فعلا كان عقليته وهمته خسارة أمة بأسرها.

مع شغله منصب رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية في آخر أيامه.. كان قد شغل من قبل منصب رئيس هيئة العمليات بالقوات المسلحة المصرية وعُيّن عام 1964 رئيسًا لأركان القيادة العربية الموحدة، وفي حرب 1967 عُيّن قائدا عاما للجبهة الأردنية..استشهد يوم ٠٩ مارس ١٩٦٩م، وسمي ذلك اليوم بيوم الشهيد.. تحتفل به مصر كل عام.. وتكريما له أيضا سمي شارع في مصر باسمه.. ولا ننس انه شارك في حرب فلسطين ٤٨م.. وحرب السويس ٥٦م.. وهو أيقونة حرب الاستنزاف.. شكل هاجس رعب عند الإسرائيليين.. يتحسبون منه ويراقبونه بدقة.. وقيل سبب وفاته تحريات جاسوسة مزروعة في مصر.

وصل نبأ وفاته لجمال عبدالناصر أثناء ترأسه اجتماع الوزراء.. فقرر وقف الاجتماع.. أشار إليه الفريق فوزي وزير الدفاع بتغيير سبب وفاته إلى حادث عادي، حتى لا يشمت به الإسرائيليون.. فأجابه أن شخصية مثل عبدالمنعم لا بد من إعطائها حقها.. بأنه استشهد في ميدان القتال.. ودع الصهاينة يشمتوا زي ما يريدوا… كان خبر وفاته مؤثرا جدا على الزعيم – كما ذكرت ابنته د. منى – كان يبني عليه آمال كبيرة.. جعل منه يزور مواقع الجيش بنفسه تعويضا عن فقد النسر الذهبي.

قبل موته بشهرين زار قريته الصغيرة والتقى بأهلها وتحدث معهم.. كأنه يودعهم حاس بدنو أجله.. وأجمل ما قيل عنه.. هي مرثية نزار قباني وهي تعبر عن تواطؤ العرب المشهود تجاه قضيتهم:

لو يُقتَلونَ مثلما قُتلتْ..
لو يعرفونَ أن يموتوا.. مثلما فعلتْ
لو مدمنو الكلامِ في بلادنا
قد بذلوا نصفَ الذي بذلتْ
لو أنهم من خلفِ طاولاتهمْ
قد خرجوا.. كما خرجتَ أنتْ..
واحترقوا في لهبِ المجدِ، كما احترقتْ
لم يسقطِ المسيحُ مذبوحاً على ترابِ الناصرهْ
ولا استُبيحتْ تغلبٌ
وانكسرَ المناذرهْ…
لو قرأوا – يا سيّدي القائدَ – ما كتبتْ
لكنَّ من عرفتهمْ..
ظلّوا على الحالِ الذي عرفتْ..
يدخّنون، يسكرونَ، يقتلونَ الوقتْ
ويطعمونَ الشعبَ أوراقَ البلاغاتِ كما علِمتْ
وبعضهمْ.. يغوصُ في وحولهِ..
وبعضهمْ..
يغصُّ في بترولهِ..
وبعضهمْ..
قد أغلقَ البابَ على حريمهِ..
ومنتهى نضالهِ..
جاريةٌ في التختْ..
يا أشرفَ القتلى، على أجفاننا أزهرتْ
الخطوةُ الأولى إلى تحريرنا..
أنتَ بها بدأتْ..
يا أيّها الغارقُ في دمائهِ
جميعهم قد كذبوا.. وأنتَ قد صدقتْ
جميعهم قد هُزموا..
ووحدكَ انتصرتْ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى