محمد غاني _ الان
وري الثرى مساء أمس الجمعة 03 اكتوبر 2023 المفكر و الأديب و الناقد و الباحث الجزائري الدكتور عبد المالك مرتاض بمقبرة عين البيضاء بوهران عن عمر ناهز 88 سنة في جو جنائزي مهيب بحضور عشرات الأفراد من اهله و زملائه السابقين في التدريس بجامعة احمد بن بلة وهران و طلبته و اصدقائه و قد تلقى ذويه برقيات تعازي من عدة جهات رسمية منها رئيس الجمهورية السيد عبد المحيد تبون و من زملاء عمله بالجامعة و المسابقة العربية امير الشعراء و المحلس للاعلى للغة العربية مشيدين جميعا بخصال الفقيد و تفانيه في خدمة اللغة العربية و وطنه
قام المرحوم باثراء الحركة الأدبية و الثقافية والفكرية بأعماله المتنوعة و يعد مرجعًا في الدراسات الأدبية و النقدية بانتاجه العديد من المؤلفات على غرار القصة في الادب العربي القديم و فن المقامات و قد أهلته هذه المجهودات لشغل منصب عضو مراسل في مجمع اللغة العربية بدمشق و كان عضوًا في لجنة التحكيم لمسابقة أمير الشعراء في أبو ظبي و حصل على جائزة سلطان العويس الثقافية في الدورة السابعة عشرة 2020 – 2021م فضلا عن ترئسه. للمحلس الوطني للفنون و الاداب و المحلس الأعلى. للغة. العربية بالجزائر و. من مؤلفاته نهضة الأدب المعاصر. في الجزائر (دراسة 1971) و. مسرحية زواج بلا طلاق و الألغاز الشعبية الجزائرية (1982) و الأمثال الشعبية الجزائرية (1982) و رواية الخنازير سنة ( 1988م) و دماء ودموع (دار البصائر، الجزائر، (2011) ونار ونور (رواية، دار الهلال القاهرة 1975+ دار البصائر، الجزائر 2011) و وادي الظلام (رواية، دار هومة، الجزائر، 2000 ) و بنية الخطاب الشعـري و ألف ياء (تحليل سيمائيّ لقصيدة أين ليلاي) و القصة في الأدب العربي القديم وأدب المقاومة الوطنية في الجزائر و الإسلام والقضايا المعاصرة و الأدب الجزائري القديم (دراسة في الجذور) و عـناصر التراث الشعـبي (دراسة) و. مرايا متشظية (رواية) و فن المقامات في الأدب العـربي (دراسة) و رباعـية الدم والنار (رباعـية روائية، دار البصائر، الجزائر 2011) و صوت الكهف (رواية ) و ثلاثية الجزائر ، ثلاثية روائية تاريخية، دار هومة، الجزائر 2011) و ثنائية الجحيم (ثنائية روائية، دار البصائر، 2012) و الحَـفـر في تجاعـيد الذاكرة (سيرة ذاتية، دار هومة، الجزائر، 2003+ دار الغرب، وهران، 2004) و هشيم الزمن (مجموعة قصصية ، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1988) و قضايا الشعـريات و نظرية النقد و في نظرية الرواية ونظرية البلاغة و نظرية القراءة و الكتابة من موقع العَـدم و السبع المعلقات (نشر اتحاد الكتاب والأدباء العرب، دمشق، 1999) و نظام الخطاب القرآني (تحليل سيمائي مركّب لسورة الرحمن ) و طلائع النور (لوحات من السيرة النبوية العطرة) و ملامح الأدب العربي المعاصر في السعودية و رحلة. نحو. المستحيل (تحليل قصيدة رحلة المستحيل لسعـد الحميدين) و نظرية اللغة العربية و مائةقضية وقضية و التحليل السيمائي للخطاب الشعري (تحليل قصيدة شناشيل ابنة الجلبي، نشر دار الكتاب العربي، الجزائر، 2001) و قراءة النص بين. محدودية الاستعمال ولا نهائية التأويل (تحليل لقصيدة قمر شيراز لعبد الوهاب البياتي) و بنية الخطاب الشعري (تحليل لقصيدة أشجان يمانية لعبد العزيز المقالح) و شعرية القصيدة قصيدة القراءة (قراءة سيمائية ثانية لقصيدة أشجان يمانية) و النص والنص الغائب (تحليل قصيدة كن صديقي لسعاد الصباح) و بنية اللغة في الشعر النبطي (تحليل قصيدة نبطية للشيخ محمد بن زايد) و فنون النثر الأدبي في الجزائر و. الشيخ البشير الإبراهيمي و العامية الجزائرية وصِلتها بالفصحى و معجمالشعراء الجزائريين في القرن العشرين و في الأمثال الزراعية الجزائرية و النص الأدبي من أين وإلى أين؟. و الثقافة العربية في الجزائر: بين التأثير والتأثر. و. معجم موسوعي و لمصطلحات الثورة الجزائرية و عناصر التراث الشعبي في اللاز و الميثولوجيا عند العرب و عجائبيات العرب و القصة الجزائرية المعاصرة و ألف ليلة. و ليلة (تحليل تفكيكي لحكاية حَـمّال بغداد). و تحليل الخطاب السردي (تحليل سيمائي و. مركب لرواية (زقاق المدق) لنجيب محفوظ) و. جمالية الحيز في مقامات السيوطي (اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1996)و سؤال الكتابة و مستحيل العدم و العَـربية أجمل اللغات والعَـربية أعـظم اللغات و قد شد هذا الزخم الكبير من المؤلفات اعجاب الكثير من المثقفين منهم الأستاذ محمد عدلان بن جيلالي الذي وصف الدكتور عبد المالك. مرتاض ب ” أبُولونُ العرَبِ فِي الْمِيثولُوجيا العربيَّة “متعدِّدُ الْمناهج و متعدِّدُ الحقول و متعدِّدُ التخصُّصات و عميد الأدب و النقد و السرديات و ابنُ خَلْدون الأدب كتبَ ما كتبَ من (الْمُقدِّمات) فِي النَّقد و فِي الأدب و فِي الرِّواية بَيْد أنَّ ما يُدوِّخنِي حقّاً هو التواُصل الْخارِق فِي خيط التأليف، والكتابةِ لدَيْه؛ فالعاديُّ أن تلِد السَّنةُ من عمْره الْمبارَك كتابَين، أو ثلاثةَ كتُبٍ، أو أربعةً .. والشاذُّ الذي لا يُقاس عليه أن تَمُرَّ السَّنةُ ولَم يُمارِسْ كتابةً و. لَم يَخترعْ كتابا
عبد الْملِك مرْتاض يؤلِّف كتاباً كما نُقشِّر نَحْن مَوزةً طازَجة، ويُدَبِّج مقالةً نقديَّةً أصيلةً كما نرتشِف نَحْن شايَ الْمساء ..
كأنَّه يَزْفِر كتاباً، ويشْهَق كتابا، ويسْتنشِق كتاباً، ويستَنْثِر كتابا .. كأنَّ أقلامَه ما بوُسْعها، لو جَمَعْتَها، أن تُشَكِّل غابة سَندِيان، ودَواتَه، لو سَفَحْتَها، ما يُلَوِّن بَحرا، وقُرْطاسَه، لو فتَحْتَه، ما يُغطِّي سَماءً…
كأنَّه يَفْرَغ من كتابة مؤلَّفٍ كما يفْرَغ الشَّاعرُ من تَهذيبِ بيتِ شِعر ..
إذا كنَّا نَحْن ليس لدينا وقتٌ للكتابة، فهو ليس لديه وقتٌ للرَّتابة. ليس لديه وقتٌ للأكل، والشُّرب، والنوم، و… أتَخيَّله يكتبُ جالساً، ويكتبُ قائما .. يكتبُ مُستيقظاً، ويكتبُ نائما .. أتَخيَّلُه يُكابد الكتابة كالشُّعراء الْمجانين، ينسِج عبارةً طارئةً وهو يتناول فطور الصَّباح، يُدوِّن فِكَراً على ورَق العقل وهو جالسٌ إلى عَقيلتِه يشْتار معها أطرافاً من الحديث، مِمَّا عسُر عليه تدوينُه وهو جالِسٌ إلى مَكْتبه معزولا ..
أتَخيَّلُه يدُسُّ تَحت وُسادته كمْشةً من الطوامير، والْجُذاذات البيضاء، كلَّما وثَبتْ إلى وَعْيه فكرةٌ عظيمة، وثَبَ من فراش النوم ليَسْتَلَّ من تَحت الوسادة جُذاذةً، فيُسوِّد بياضَها من وحي الليل، وبِحِبْر العَتَمة ..
أتَخيَّلُه يَمشي ويكتُبُ .. كلَّما داهَمتْه فكرةٌ جَليلة، سلَّ من تَحت إبْطه قُصاصةً، وراح يُقيِّد الفكرةَ تقييدا .. فهل يأذَن لِي سيِّدي عبدُ الْملِك مرتاض بأن ألَقِّبَه مِن اليوم هكذا:
تأبَّطَ فِكْرا ..
تأبَّطَ فِكْرا ..؟
عبد الْمالِك مرتاض .. مُتنَبِّي النقد العربِيِّ الْمُعاصِر!
عندما وقعَتْ عيناي على عنوان مؤلَّفِه الرَّصين: (في نظريَّةِ النَّقد)، تَمنَّيتُ لو أنَّ العنوان صِيغَ هكذا: نظريَّةُ نقد !
هل ثَمَّة فرقٌ بين هذَين العنوانَيْن الْمُتَّفِقَين مُعْجمًا، الْمُفْترقَيْن نَحْوا ؟
ذلك ما أراه. إلى اليوم، ما تزال فِي بِنْية التنظير للنَّقد العربِيِّ الْمُعاصِر بِنْيةٌ غائبة: نظريَّةُ نقدٍ عربيَّةٌ أصيلةُ الزُّمْرة الدمَويَّة.
ذاتَ مساءٍ، فتحتُ خزانة والدي القديْمةَ. لَم يكُ فِي ذهنِي عنوانُ كتابٍ ثابتٌ، لكنَّنِي رُحْتُ أنقِّبُ كالأركيُولوج باطن الخزانة رفَّا، رفَّا .. حتَّى وقعَتْ يدي الشَّعْثاءُ الغبْراءُ مُصادَفةً على كتابٍ ضُخامٍ رانَتْ على وجْهه الأصفر غَبْرةٌ صفراء، عنوانُه: (القصَّةُ فِي الأدب العربِيِّ القديم). كم كانتِ الْمُصادَفةُ مُصادَفة !
فمكْتبةُ أبِي الصَّغيرةُ كانت فرونكوفونيَّةً بامتياز .. أظنُّنِي كنتُ أفتِّش عن (أزاهيرُ الشرِّ – Les fleurs du mal) لشارل بودلير (Charles Baudelaire) فعَثرتُ، لِحكمةٍ يعْلَمُها الله، على أزاهيرِ الْخَير لعبد الْملِك مرْتاض !
حرَّكتُ عينَيَّ إلى أسْفل واجهة الكتاب كما يُحرِّك الْمُخرِجُ السِّينمائيُّ عينَ الكاميرا، ثُمَّ قرأتُ: عبد المالك مرتاض. هنا كانت أوَّلَ مرَّةٍ أتلفَّظ فيها بِهذا الاسْم الكبير. أخذتُ الكتاب بقوَّةٍ، وهَمَمتُ بقراءة أولَى الصَّفحات منه، وقدِ اعترانِي فرَحٌ عارمٌ عرامةَ الكتاب..
بَيْد أنَّ فرَحي ذاك قد بُنِيَ على مُعطىً واهمٍ، ومغلوط؛ فقد كنتُ أعتقد أنَّ الذي كنتُ أقرأ له هو مالكُ بنُ نبِي! حيث كان اعتقادي مُحفَّزاً بِحافزَين اثنَيْن: أوَّلاً؛ كنت طالِباً ثانويّاً يزاول دراستَه فِي الصفِّ النِّهائيِّ بثانوية: مالك بنِ نبِي. وثانياً؛ مدلول الْمِلكيَّة الْماثِلُ فِي الدَّالَّيْن: مالكُ، وعبد المالك، قدِ انزلَق بِي إلى الاعتقاد فِي العالِم الذي أعْرفه من قبْلُ على حساب العالِم الذي أعْرفه توّا.
فِي نِهاية الْمطاف، مالِكُ، وعبد الْمالِك؛ كلاهُما قد ملَكَ سَهْماً من أسْهُم العبقريَّة.
كان الكتابُ، إن لَم تَخُنِّي ذاكرتِي، أوَّل كتابٍ يُنشَر لعبد الْملِك مرتاض (1968). لكنَّنِي أذكر جيِّداً كيف كنتُ أتصَفَّح، إذ كنتُ أتصَفَّحه، كتاباً مقدَّساً، أو مَخطوطاً لا يَملك العالَمُ منه إلاَّ نُسْخةً واحدة ! كانت أوراق الكتاب حَرْشاءَ كحراشِف سَمَكة، وصفراءَ كأوراق الكتُب التراثيَّة القديْمة .. وكانتِ الصَّفحاتُ تعْبَق برائحة الأنِيسُون، والزعْفَران .. والخطُّ كان مفتولاً كأنَّه رُقِمَ بأنامل شاعر ..
لَم أكن أفْهم ما أقرأ فهْماً كاملاً .. كانتِ الدوال تلْتطم بِجدار الوعي التطاما، وأمَّا الْمدلولاتُ فكانت تسَّاقطُ حجراً، حجراً فِي باطن العقل. كنتُ أملك عقلاً طَرِيّاً كلَوزة .. لا يقوى على قراءة النصوص السَّميكة.
بعد أعوامٍ، حصَل أن قرأتُ شيئاً من كتاب (أدبُ الكاتبِ) لابن قُتَيْبَة؛ قراءةُ صفحةٍ واحدةٍ كانت كافية لتجعلَنِي أنتفِض صائحاً: هذا القُتَيْبَةُ .. هو أشْبَه ما يكون بعبد الْملِك مرتاض !!
ومن روائع الصُّدَف أنَّي اعتمَدتُ هذا الكتابَ – الحبيب فِي بَحث تَخرُّجي لنيل شهادة اللِّيسانس عام 1999، مَرْجِعاً فعَّالاً فِي تَحرير أحد مباحثِه الطَّريفة. أذكُر أنِّي حاولتُ إثباتَ وجوديَّةِ أبِي العلاء الْمَعَرِّي متَّكئاً على مقتطَفٍ تَحليليٍّ لعبد الْملك مرتاض جاء به مُستقرئاً معالِم الوجوديَّة فِي رسالة الغفران. خَلَبَنِي التحليلُ لشدَّة التصاقه بالذهنيَّة العربيَّة .. حتَّى حَدسْتُ أنَّ ثَمَّة وجوديَّةً مرتاضيَّةً غيرَ وجوديَّة مارتن هايدغر، أو وجوديَّةِ جون بول سارتر!
ويا أسَفي .. قدِ وُصِف الْمَبحث بالْمُقحَم، والدخيل .. لا لشيءٍ إلاَّ لأنَّ شُحْنته الكهربائيَّة كانت تفوق الْخمسمائة فولْطاً، مقارنةً بالعشرين فولْطاً التِي كان يقتاتُ عليها بَحثي الصغير.