*اذهبوا فأنتم الطلقاء*

✍ صالح الريمي – جدة :

قال عمر الفاروق رضي الله عنه: (أعقل الناس أعذرهم للناس)، ويقول علماء النفس: “التسامح نصف السعادة”، وفي الأثر قيل “إذا بلغك عن أخيك الشيء تنكره؛ فالتمس له عذرًا واحدًا إلى سبعين عذرًا، فإن أصبته وإلا قل: لعل له عذرًا لا أعرفه”..
البارحة كدت أن أعمل حادثًا مروريًا عندما هممت بالدخول في إحدى المنعطفات يسارًا، واذّ بسيارة كان صاحبها يطير في شارع لا يسمح للمركبة بتجاوز سرعة أكثر 40 كيلو متر في الساعة.

الحمدلله تفاديت الصدام بتوفيق من الله وفضله ومنه، لكن صاحب المركبة الأخرى خرج من سيارته يرعد ويزبد والشرر يخرج من عينيه، سكت برهة من الزمن حتى إذا انتهى من كلامه، سلمت عليه، ابتسمت، مازحته، قلت له الحمدلله على السلامة والمسامح كريم، قال شكلك تتابع البرنامج، قلت له أي برنامج تقصد؟ فلما فهمت قلت للأسف لا.. وانصرفنا لأعمالنا حامدًا الله على السلامة..
وعندما رجعت إلى بيتي جاءني الفضول وتابعت بعض حلقات “المسامح كريم” في اليوتيوب، وهو برنامج اجتماعي حواري تتلخص فكرة البرنامج بأنه يقوم على أساس التسامح والمحبة والترفع عن سفاسف الأمور، ويعتبر البرنامج مسابقة مع الذات، وتحد للتوفيق بين شخصين فرق بينهما الزمن وظروف الحياة . 

الكل يعلم أن جميع البشر يخطئون وهو جزء من انسانيتنا، ولا بأس بأن يخطئ الإنسان، ولكن خير الخطائين التوابين كما قال المطصطفى عليه الصلاة والسلام، والتسامح ليس بالأمر السهل ولا يصل إليه إلا صاحب الخلق القويم والنفس الكبيرة..
يعتبر التسامح قيمة إنسانية عالية وأحد المبادئ الإنسانية والأخلاقية بسمو النفس البشرية إلى مرتبة أخلاقية عالية، ومبدأ العفو عند المقدرة، وعدم رد الإساءة بالإساءة، والترفع عن الصغائر، ونسيان الماضي المؤلم بكامل إرادتنا، والتخلي عن رغبتنا في إيذاء الآخرين لأي سببٍ قد حدث في الماضي . 

بعض الناس يعيش في دائرة اللوم؛ فكثيرًا ما يلوم الآخرين على ما يفعلون، ويعذلهم على ما يقولون، ولا ينفك من توجيه توبيخ أو تعنيف أو تقريع، فالناس منه في شقاء، ونفسه منه في ضيق وكرب..
لكن العاقل الذي يضع نفسه مكان الآخرين، ويعلم بأن الحياة قصيرة وتمضي دون توقف، فلا داعي ليحمل الكره والحقد بداخله ويلتمس الأعذار والتبريرات، ويتخلص من اللوم والنقد ويملأ حياته حب وتسامح وأمل، لنكون مطمئنين مرتاحين البال، ونحيا بسلام وهدوء.

قبل عدة سنوات اصدرت قرارًا يخصني بازالة الهم عن نفسي فارحت وارتحت لقد قررت في مستقبل الأيام وقادمها، بالعفو التام عن أخطاء الآخرين وأن لا أعتب على أحد، فإن كنت مريضًا فلا أعتب على من لم يسأل عني ولو كان يعلم بمرضي، وإن كان لدي حالة فرح فلا أعتب على من لم يهنئني ولو حتى وجهت له دعوة رسمية، ولا أعتب على من لم يعزيني ولو علم بوفاة قريب لي..
باختصار شديد، لا أعتب على أحد، لأن العتب سيجعل العلاقات أسوأ، ولأن للناس أعذارًا لا أعلمها، والافضل البحث لهم عن الأعذار حتى لو لم يقولوها، قال ابن كثير: «فَإِنَّ الْجَزَاء مِنْ جنس الْعَمَل فَكَمَا تَغفِر ذنب مَنْ أَذنَبَ إِلَيك يَغفِر اللَّه لَك، وَكَمَا تَصْفَح يُصْفَح عَنْك»، عدم اللوم والنقد يدل على فهم عميق للنفس الإنسانية، ومنهج سديد في التربية العملية للرقي من حضيض الانتقام والتشفي إلى سمو الصفح والعفو، مع نفسه والآخرين، ويسلم من آفات الغضب والرغبة في الثأر.

من حق أي شخص أن يعيش في سلام مع نفسه ومع الآخرين، فيسامح نفسه ويحيا في صفاء وهدوء، ويعفو عن زلات الناس، ويقبل أعذارهم، ويتغاضى عن عثراتهم، فيكون عفوًا، صفوحًا، واسع الحلم، رحب الصدر، يحب الناس قربه، ويأنسون به، ويكون حقاً مثالا يحتذى به..
تأملوا صفح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة بعد أن تمكن منهم بعد الفتح فقال لهم: «ما تقولون وما تظنون؟» قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم.. قال عليه الصلاة والسلام: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.

*ترويقة:*
أنظروا إلى صفح يوسف عليه السلام عن إخوته بعد أن فعلوا به ما ذكره الله تعالى من المعاناة والأذى ثم لما تمكن وقدر قال لهم: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.

*ومضة:*
التسامح صفة الاقوياء، قال الله تعالى: {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم}.

*كُن مُتََفائِلاً وَابعَث البِشر فِيمَن حَولَك*

Related Articles

Back to top button