بين نبض المقاومة والفخر في قصيدة “إننا فخر الزمان” للأمير عبد القادر الجزائري

✍ عواطف سليماني : 

اخترقت الحداثة اليوم كل ميادين الحياة، وبخاصة في شقيها الفلسفي والمادي، الكثير من القرائن اللغوية والمعرفية والجمالية سيقت في مجال نقد الشعر، مستويات لغوية حددت فنية القصيدة و أبانت محمولاتها الدلالية، والأخلاقية والثقافية، وحتى يرتقي النص الشعري بهذه المستويات لابد له من دلالة جامعة لكل هذه المستويات، وقل ما نجد نصا شعري متكامل البناء الفني والفكري، ولكنه قد يحصل ذلك، فنص الأمير عبد القادر” إننا فخر الزمان” حمل المفارقة الإبداعية، لذلك سنقف عند غايته الجمالية في زمن ولد فيه الأمير عبد القادر بين مدرستين متضادتين في الطرح، المدرسة الكلاسيكية والمدرسة الحديثة، أو كما يطلق عليه البعض بين عصر الضعف والعصر الحديث، ليخرج لنا أسلوبا يجمع بين التقليد والحداثة، والالتزام والتجديد، ويكون شعره قد حقق دورا جماليا وسياسيا في وقت واحد.

وتأتي هذه النظرة للشعر من تحديد مجال النقد، لأن دراسة الشعر من منظور لغوي ومنهجي تفضي إلى دراسته من منظور فلسفي نقدي، منظور يشيد بعلميته القائمة على ركيزتين:

– مناسبة تفسير المادة لمنظور الناقد، وهي شرط أساس لا غنى عنه.

– إعداد آليات النقد الكفيلة بالدراسة، و أن لا يغلب الناقد جانبا عن الآخر.

لأن الطريق إلى سبر حقيقة الشعر موطأ بالإقدام، لا الاعتقاد، وفي الدراسة ليس بالمنهج مهما ما لم يبرر له، لابد للناقد من التغلغل في شعاب النص واستكناه مكنوناته وجواهره، فلا خير في ناقد لا يحسن صياغة جواهره وتثمينها. قبل الولوج إلى شعر الأمير لابد من رحلة سفر لرؤية ملامحه الخلقية، ناهيك عن تلك الأخلاقية، هذا الوصف أورده العلاّمة الدكتور ممدوح حقي في تقديمه لديوانه، والذي وصفه به ابنه الأمير محمد في كتابه (تحفة الزائر في تاريخ الجزائر والأمير عبد القادر)، إذ يقول عنه:

«كان معتدل الطول، مليء الجسم، يعلوه رأس ضخم، يتوجه شعر كثّ مخضب بالسواد. يبرز من بين عينيه الشهلاويتين أنف أقنى، مطلّ على فم مطبق، تموج فيه ابتسامة تطمع بحنان ناعم، وراءه حزم حازم، يشع من عينين نافذتين كالكهرباء. يمشي مستقيماً، ويقعد كالمستوفر، وينهض بعزم، إذا ركب وثب إلى ظهر الجواد وثباً، وبقي إلى آخر أيامه يحبّ الخيل، ويداعبها،ويُعنى بها، ولا يسير إلا مزعاً وإرقالاً. يصحو من نومه قبل الفجر، فيصلّي الصبح حاضراً، ويقرأ ورده المعتاد بصوت هادئ مسموع، ثم يضطجع، فيغفو إلى ما بعد بزوغ الشمس، وينهض ليملأ نهاره بعمل مستمر،لا ينقطع لحظة واحدة عن عمل يؤديه، أو كتاب يستفيد منه، أو مؤلف يعدّه، أو قصيدة ينظمها، أو رسالة يحبّرها… وأكثر رسائله من المطولات، فإذا وجد فضلة من وقت اشترك في خياطة ثوب، أو مباراة بالشطرنج مع أحد أخصائيه.

وكان يُجيد استخدام الإبرة في السلم إجادته استخدام السيف في الحرب، لا يهدأ و لا يفتر: عاملاً، جاداً طوال يومه، حتى يصلي العشاء الآخرة، فيذهب إلى فراشه ليستريح من عناء نهار كامل، لم يترك فيه دقيقة واحدة بغير عمل. وكان حادّ الذكاء، عجيب الحافظة، بارعاً في تصريف الأمور، شديد التمسك بدينه، حافظاً عهوده، ووعوده، غير أنه كان عصبي المزاج، عنيفاً في الدفاع عما يعتقد أنه حق، لا يلين للقوة مهما قست وطغت، فيه شيء من عنجهية البادية وعنادها على ليونة في القلب أمام الجمال، وتراخٍ لعزة المرأة»(ممدوح حقي: مقدمة ديوان الأمير عبد القادر، دار اليقظة العربية، بيروت 1965، ص11) إن المتتبع لتجربة الأمير الشعرية يُدرك أن الشعر قد لازم الأمير طوال حياته، وكان يحلُ معه حيثما حلّ، كان أنيس له وصاحب أيام الفرح والقرح، وفي ليالي الشجن والسرور، ورافقه عندما أضحى أسيراً في فرنسا، وبعد ذلك في تركيا، وفي المدينة المنورة، ومكة، وفي دمشق، وغيرها من الأصقاع التي أبدع فيها الأمير قصائده العذبة.


من خلال مناقب الفخر تجلت لنا مناقب الأمير الأخلاقية الحميدة، وتبدت لنا بطولاته، ومكارمه، ورحلاته في سبيل طلب العُلا، وتحمل الأهوال والمشقات إلى غاية الوصول إلى الأهداف الإنسانية النبيلة، وتحقيق العدل، والأخلاق الكريمة الفاضلة، فقد صاغ جميع هذه القضايا في قصائد بديعة، وأبيات رقيقة، مثل قوله في هذه الأبيات:

لنا في كُل مكرُمة مجــــــــــال ***    ومن فوق السماك لنا رجالُ

ركبـــــــــــــــنا للمكارم كل هول***    وخضنا أبحراً ولها زجالُ

إذا عنا توانى الغيرُ عجـــــــــــــــزاً***    فنحن الراحلون لها العِجالُ

قصيدة الأمير تتراوح بين عدة رسائل مشفرة وأخرى واضحة، أولها الفخر بنسبة العربي الإسلامي الجزائري، وثانيها دحض فكرة فرنسا المتحضرة صاحبة الفضل على الجزائريين في تعليمهم مبادئ الرقي، وق ترفع عن كل لؤم

رَفَعْنَا ثَوْبَنَا عَن كُلِّ لُؤمٍ ***   وَأَقوَالي تُصَدِّقُهَا الفِعَالُ

بدا لنا الأمير عبد القادر في شعر الحماسة والحرب مُدافعاً عن كرامة وطنه، يبث روح الكفاح والعزم والإقدام في نفوس المجاهدين، لقد رسم لنا من خلال قصيدته صوراً لا تُمحى من ذاكرة الأجيال، تلك الأجيال التي تأملت قصائده الجهادية والحماسية فنراه  يجذ رؤوس الأبطال من ضباط الجيش الفرنسي العدو جذاً، بل يعتز بأنه يتقدم جنوده ولا يدفعهم أمامه، فيطيح رأس قائد جيش العدو مفتخراً بقوة تسديده وتصويبه، معتزاً بجنوده من رجال أشداء ذوي عزم وعزيمة يبذلون أنفسهم فداءً له

وكان لنا دوام الدهر ذكرا*** بذا نطق الكتاب ولا يزال

زمنا لم يزل في كل عصر*** رجال للرجال هم رجال

لهم همم سمت فوق الثريا*** حماة الدين دأبهم النضال

عظمة الأمير عبد القادر تجلت في واقعيته، فهو المناضل الذي يضرب بتواضعه موعدا لكل واجب، وهو المناضل الحقيقي، وهو البطل الذي وضع بطولته في طليعة الجيش، وهو الآمر بفرض طاعة أوامره، وهو الأمير لإمارته التي تسابقه إلى الاستشهاد، وتتطلع إلى ساحات الشرف، بنزعة خطابية ومــــدود حروف كثيرة، أعلن تمرده وأسمع من به صمم، رجل تعجب له العالم في حلم وقوة، وشجاعة وأقدام، أفصح الأمير الشاعر عن جوانب جمالية نصهن  وهي جوانب متغيرة بين الترادف والتضاد وبين العمق والغموض، والشفافية والوضوح، لنعرج على أعاجز أبياته ونتمثل تلك المتغيرات التي تفضي إلى نبض يقاوم كل ضعف وأن بدا دقيق البناء:

ومن فوق سماك لنا رجال

وخضنا أبحرا ولها زجال

فنحن الراحلون لها العجال

ينادي المستغيث: ألا تعالوا

سوانا والمني منا ينال

ومصر… هذا بهذا ما يقال

يقدم الأمير مفتخرا … لنا رجال وساعة خوض الحرب تكون قواهم وأصواتهم قول زجال، كنظم شعره وتصريحه بالجهاد، وبشي من الحماسة… يرحلون عجال، وبسرعة يناشدون غيرهم، ألا تعالوا انضموا إلى موكبنا وكونوا مثلنا أقوياء أشداء، وغيرهم لن ينالوا شرف الشهادة والنصر، وستبقي الأمم تقول عنهم ما يقال، أي جمالية في تواتر خواتم أعجاز أبيات قصيدة الأمير عبد القادر، إنها تكاملية الإبداع في سردية شاعرية حققت لنا مشهدية المتعة في تلقي نصه.


ولن ينسي الأمير بأن يذكر من ينتفض لأرضه وعرضه، بأن يكون صاحب إرادة، متعلما متعدد اللسان واللغات والهبات، وما دليل ذلك من تكوين كتابه الكثر في إعداد مراسلات الملوك، والأباطرة، والسلاطين، وحفظ مراسلاتهم، وترجمتها على نحو يفهم كل ثقافاتهم، ويقرب وجهات النظر بينه وبينهم.

لهم لسن العلوم لها احتجاج*** وبيض ما يثلمها النزال

وربما تحجب فرنسا عن العالم هذه الحقيقة، وأن صدقت فيما تقول فإنها زاهدة ساخرة فيه، تؤرخ زورا وبهتانا، ولكنها تقع في نقيض ما تكتبه، لتعارضها وتخالفها كتب الآخرين، وتفضح كذبها.

سلوا تخبركم عنا فرنسا*** ويصدق إن حكت عنها المقال

وصدقت الجزائر وحان وقت النصر، وسقطت كل الأقنعة والإيديولوجيات الكاذبة، وانتفض العالم لحرية الجزائر، وأن كانت مصانع الخلد سعت إلى تحقيقها كل الحضارات وبشتى السياقات، فإن مصانع الخلد عن ألأمير عبد القادر الجزائري محققة وأن زال الرجال فالجزائر خالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى