غفلة المعاد

✍عبدالرحمن بن عبدالله اللعبون :

قال إبراهيم بن الأشعث: ما رأيت أحدا كان الله في صدره أعظم من الفضيل، كان إذا ذكر الله، أو ذُكر عنده، أو سمع القرآن، ظهر به من الخوف والحزن، وفاضت عيناه، وبكى حتى يرحمه من يحضره، وكان دائم الحزن، شديد الفكرة، ما رأيت رجلا يريد الله بعلمه وعمله، وأخذه وعطائه، ومنعه وبذله، وبغضه وحبه، وخصاله كلها غيره، وكنا إذا خرجنا معه في جنازة لا يزال يعظ، ويذكّر ويبكي كأنه مودّع أصحابه، ذاهب إلى الآخرة، حتى يبلغ المقبرة، فيجلس مكانه بين الموتى من الحزن والبكاء، حتى يقوم وكأنه رجع من الآخرة يُخبر عنها.
ونحن نسير في قافلة الأيام التي تحث خطاها سريعا إلى مقصد مشترك لا يتخلف عنه أحد، وهذا المقصد يفر الناس منه وهم إليه ذاهبون، فهو كما قال الرافعي: من يهرب من شيء تركه وراءه، إلا القبر فما يهرب أحد منه إلا وجده أمامه، هو أبدا ينتظر غير متململ، وأنت أبدا متقدم إليه غير متراجع.
وفي مجرد النظر إلى المقابر والمرور بها وقفات محاسبة وتبصر، قال معاذ أبو عون: كنت أكون قريبا من الجبّان، فكان يمر بي رياح القيسي بعد المغرب إذا خلت الطريق، وكنت أسمعه وهو ينشج بالبكاء ويقول: إلى كم يا ليل ويا نهار تحطان من أجلي وأنا غافل عما يراد بي، إنا لله، إنا لله، فهو كذلك حتى يغيب عني وجهه.
مساكين هم أهل القبور فقد قُطع بينهم وبين العمل الصالح، بل المساكين هم الذين تيقنوا أنهم سيموتون ولم يزيدوا في العمل الذي يبدد وحشتهم في وحدتهم، بعد أن يهيل عليهم أحبابهم التراب متقربين بذلك إلى الله، تاركيهم جلساء للظُلمة والوحشة، لا يستطيعون أن يقدموا لأنفسهم شيئا.
نظر عبدالله بن عمرو بن العاص إلى المقبرة، ثم نزل فصلى ركعتين، فقيل له: هذا شيء لم تكن تصنعه.
فقال: ذكرت أهل القبور وما حيل بينهم وبينه، فأحببت أن أتقرب إلى الله بهما.
إحساس يبعثه حديث القبور الصامتة الذي يوصله دجى الليل، وكأن حلكته تصرخ بظلمة القبور، فتهيّج القلوب، فتدفع أصحابها إلى محط رحالهم في ختام الطريق.

Related Articles

Back to top button